إستونيا: من هاتف رئيس الوزراء إلى برمجة النمر

د. سيف بن ناصر المعمري

أوّل مرّةٍ سمعتُ فيها اسم إستونيا كانت في نشرة أخبار السَّاعة العاشرة بتلفزيون سلطنة عُمان، حيث كنت أُتابع مع والدي- باستمرار هذه النشرة، قبل خمسة وعشرين عاماً حين بدأ انهيار الاتحاد السوفيتي، وكانت هذه الدولة مع كلٍ من"لاتفيا وليتوانيا" في مُقدمة الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي، وعرفت يومها أنّها كانت دولةً صغيرةً، ولكن يبدو أنّ سُكَّانها كانوا تواقين للحرية، ولا يوجد شعب يتوق للحرية إلا ولديه رغبةٌ جامحةٌ للتقدم، أما أولئك الذين ينفرون منها فيكونون مشدودين للماضي دائمًا، لأنّه يُشعرهم بطمأنينة كبيرة، فالتقدَّم من وجهة نظرهم يجلب معه اشتراطاته التي هم في غنى عنها، حتى وإن عذبتهم مشاعر الإحباط من رؤية الآخرين يمضون للأمام بسرعة في حين يتراجعون هم للخلف بشكل مُخيف، ما الذي جعل من هذه الدولة الصغيرة التي صادر السوفيت من سكانها الأمل ليس في التقدم ولكن في التحرّر تصبح كذلك في خلال عقدين من الزمان؟ ما الذي قادها لأن تتزعم ريادة العالم في مجال التكنولوجيا بشكل عام وفي مجال تطبيق الحكومة الإلكترونية بشكل خاص؟ لا يكفي سؤالان حين نتحدّث عن إستونيا فبقدر التفاصيل تُطرح الأسئلة، ولكن حدود المقام لا تتسع إلا لهاذين السؤالين المحوريين في تاريخ الأحلام الإستونية الكبيرة التي صاغتها في لحظة مفصلية وعملت على تحقيقها، لم تقلب الصفحة الأولى إلا لتكتب شيئاً ذا معنى في الصفحة التالية، أعادني أحد الأصدقاء إلى هذه الأسئلة مرة أخرى أثناء نقاش حول التجارب التنموية الناجحة.

حين استقلت إستونيا رسميًا في عام (1991) عن الاتحاد السوفيتي السابق، واجههم سؤال هو هل يُمكن لهم أن ينجحوا بدون هذه الدولة العظمى، وربما تعرضوا لحملة كبيرة من الخوف من مستقبل وجودهم بدونها، فكيف للأقزام أن يتغلبوا على المارد، وكيف للقطط الصغيرة أن تقف بشموخ أمام القطط السمان، إنّها المعادلات التي رفضها مواطنو هذه الدولة، وقرروا أن يكونوا بذاتهم، وتسلحوا بالإخلاص، ويكفي أن نعرض صورتين توضحان كيف كانت هذه الدولة وكيف أصبحت، حين استقلت هذه الدولة كانت مرتبطة بالعالم الخارجي بهاتف محمول واحد من صناعة فنلندية كان لدى وزير خارجيتها، كان هذا الشعور بالعُزلة والتأخر كافياً ليجعل الإستونيين يزرعون أحلامهم على صخور ليس بها تربة من أجل أن يثبتوا للعالم ولأنفسهم أولاً أنّهم قادرون على التفوق وبالذات في التكنولوجيا التي حُرموا منها لعقود طويلة، وكان لهم ما أرادوا، لأنّ في الإرادة عزماً لا يمكن قهره، وأصبحت إستونيا رائدة في مجالات الحكومة الإلكترونية في العالم في زمنٍ وجيزٍ، وبدأت حاراتها ومدنها تنبت مهووسين بالتكنولوجيا وتطويرها والابتكار فيها، وفي التربة الإستونية نبتت العديد من الخدمات المُميزة التي تستخدم في العالم اليوم مثل تلك التي أشار إليها خالد مجد الدين في مقالة له بعنوان "إستونيا تصبح عملاقاً للتكنولوجيا بفضل جيل من المطورين ومبتكري البرامج" ومنها برنامج التراسل الصوتي والمرئي (سكايب Skype)، وكذلك ظهرت "شبكة خدمة الملفات (كازا Kazaa)، والأرقام تشير إلى الحصاد الثري لهذا التوجه حيث تمّ تسجيل أكثر من (14000) شركة جديدة في إستونيا في عام 2011م، مما جعل نسبة إسهام الصناعات ذات التقنية العالية في الناتج الإجمالي تصل إلى (15%)، وحين اشترى موقع (أي باي eBay) برنامج سكايب دفع فيه (2.6) مليار دولار أمريكي، وقادت هذه الابتكارات إلى تغيير في نمط الحياة في هذه الدولة بمختلف مجالاتها السياسية والاقتصادية، وكان لها السبق عالمياً في إدماج التكنولوجيا في الحياة السياسية حيث كانت أول دولة في العالم تسمح بالتصويت الإلكتروني عبر الإنترنت في الانتخابات العامة في عام 2007م، أي منذ ثمان سنوات ولا تزال دول أخرى في العالم اليوم تُفكر في إمكانية الأمر لأنّها لا "تمتلك العزم الإستوني" في عمل الشيء في وقته، إنّ سُكان هذه الدولة أقل بكثير منّا، فعددهم لا يتعدى مليون ونصف المليون، مما يعني أن الدول الصغيرة قادرة على أن تصبح دول عملاقة، بالإنتاج المميز وبالمشاركة في مسيرة الابتكار وتبني الأنظمة الحديثة والبُعد عن الأساليب القديمة في الحياة التي لا تتناسب مع ما وصل إليه العام من تقدم تكنولوجي، والتكنولوجيا وجدت لكي توفر للإنسان وقته وجهده وتجعله ينجز ما يحتاج في أي زمان ومكان يوجد فيه، ولذلك فسكان هذه الدولة وظفوا التكنولوجيا من أجل تفريغ أنفسهم للعمل، فالإحصاءات تشير إلى أن (95%) منهم يرسلون إقراراتهم الضريبية بالإنترنت، وسجلاتهم الصحية مخزنة بالسحابات الرقمية (Digital Cloud)، وحتى تستمر البلد في نموها وتقدمها في قطاع التكنولوجيا كان التركيز على حق الإنسان في استخدام التكنولوجيا وكذلك حقه في التعليم على استخدام التكنولوجيا، وهي إحدى الدول القلائل التي أعلنت منذ 15 عامًا أنّ الوصول إلى الإنترنت حق من حقوق الإنسان الأساسية، ومن ثم إتاحة خدمات الواي فاي مجاناً في جميع أنحاء البلاد، يعني رفضت الاتجار بالاتصالات بشكل يُعيق مشروع البلد الوطني، ومضت في الاهتمام بالإنسان فعملت على تغذية الفصول الدراسية بمختلف الوسائل التكنولوجية، وأطلقت برنامج عرف ببرمجة النمر (Proge Tiiger) لتعليم الأطفال قبل سن المدرسة أساسيات الترميز من أجل بناء جيل من المبتكرين والمخترعين يواصل الحفاظ على هذا التفوق العلمي والاقتصادي، والآن البرمجة مادة أساسية لطلبة هذه الدولة، فالأساس هو الاعتماد على القدرات الوطنية أي على الذات، فهم قادرون بأنفسهم لا بغيرهم على تحقيق شرطهم التنموي، إنّ السؤال الجوهري الآن لا يتعلق بما حققته هذه الدولة إنما بالطريقة التي تمكنت بها من تحقيق ذلك، وهنا يمكن أن الخص الإجابة في عدة نقاط؛ الأولى وضوح الرؤية، وثانيها الإرادة القوية، وثالثها رفع سقف الطموحات، ورابعها رفض أي شيء لا يتماشى مع الطموحات الكبيرة، اتضحت الرؤية والإرادة القوية بعد الاستقلال عن السوفيتي حيث استلمت الحكومة الشابة التي بلغ متوسط عمر أعضائها خمسة وثلاثين عامًا بقيادة (مارت لار) بلداً لا يوجد بها أي مقوم للنهوض سواء تعلق الأمر بالبنية التحتية أو بالأنظمة التي تسير مجالات الحياة، فتحدوا هذا الواقع، وانطلقوا من منطقة الصفر، ووضعوا قوانين مرنة تشجع رواد التكنولوجيا على تأسيس شركاتهم ودعموهم، كان الهدف هو "إستونيا" متقدمة وليس أي شيء آخر، وحين كانوا يؤسسون لأيّ نظام كانوا يجعلونه إلكترونيًا متقدمًا، فعلى سبيل المثال حين احتاجوا لتسجيل الأراضي أسسوا لها نظاما رقميا أطلق عليه اسم "الفسيفساء"، فحرروا أنفسهم من عبودية الورق التي تتيح فرصاً كبيرة للتأخير والفساد الذي لا يُمكن تبريره في المجتمعات الصغيرة التي يعرف سكانها بعضهم البعض.

أما في ما يتعلّق بعامل رفع مستوى الطموحات ورفض أي شيء لا يناسب الرؤية، فهذا كان له دور كبير في تحقيق هذه الإنجازات، فالحاجة أم الاختراع، والتنمية تتطلب جلباباً على مقاس أيّ بلد بدلاً من أن تستورد جلباباً آخر قد يكون قديماً أو لا يلبي الحاجة، وهنا تقدم هذه الدولة مثالاً صارخًا على رفضها جعل أرضها مستودعاً للملابس القديمة أو الأفكار المتأخرة، فيحكى أن فنلندا التي تحدها من الشمال عندما قامت بترقية شبكة الاتصالات الرقمية، قررت أن تمنح إستونيا مجاناً شبكتها التماثلية القديمة التي ظهرت في السبعينات، في مؤشر ألا أحد يمنح أحداً التقدم إلا إذا أراد هو ذلك، وأن الذي يرضى بما يتخلص منه الآخرون لن يحقق أي شيء مُتقدم، لهذا رفضت هذه الدولة هذا العرض الذي وجدته مهينًا، واعتبرته كرماً لا يقبله إلا المغلوب على أمرهم، وقال مسؤولوها بصوت عالٍ: " سنبني شبكتنا الخاصة التي ستكون أكثر تقدمًا من تلك التي تملكينها يا فنلندا"، وبالفعل نجحت في ذلك بل إنّها أعلنت في نهاية العام الماضي أنّها في طريقها لتصبح أول بلد في العالم يتحول من استخدام "الواي فاي"ـ إلى تقنية "لاي فاي"، فهل نتعلم شيئًا من هذا المسار وهذا الإصرار؟ هل يجعلنا نراجع بعضًا مما مضى من أجل تحقيق شيء يُلح علينا بشدة؟.




تعليق عبر الفيس بوك