المرض النفسي.. "أنياب العزلة" تقضم "رقبة" التعايش المجتمعي

عشريني ينزلق إلى "هاوية الاضطراب".. و"الذكاء الحاد" لم يشفع لـ"الطالب النجيب"

"لم يعد شخصًا طبيعيًّا".. هكذا وَصَف الجميعُ حال (س.خ)، ذاك الشاب العشريني الذي لطالما ميَّزه ذكاؤه الخارق بين إخوانه وأقرانه. فمنذ نعومة أظفاره وكان "الهوس المعرفي" سمتًا له، وسرعة البديهة والتفاعل مع المعلمين هي الصفة المعهودة عليه دومًا؛ الأمر الذي كان يُثير استغرابَ عائلته على الدَّوام، خصوصا وأن أحدًا من إخوانه لم يكن على ذات القدر من الاهتمام، بل إن أغلبهم لم يُكمل تعليمه؛ فرَغَد العيش وميسورية الحال وضعتْ الدراسة في ذيل قائمة اهتماماتهم؛ إذ الوظيفة مضمونة بـ"وساطات الأب"، والحياة يسيرة بما يملكونه من أموال.

وبَقِي "س.خ" على تلك الحال سنوات معدودات، إلى أنْ تبدَّلت سِمة الاهتمام إلى ما يُشبه بداية أعراض لمرض نفسي، حيث بدأت العائلة تلحظ تغيرات غريبة تطرأ على سلوك ابنها "الذَّكي"؛ وتُنذر بتحوُّلات في الشخصيَّة، قد تجلب عليه مضارًا تُوصِله حدَّ التهلكة.

رصد التجربة- مدرين المكتومية

ويقول الأخ الأكبر لـ"س.خ": أخي ذكي جدًّا، ولديه حب عارم للمعرفة والعلم والثقافة، ولكن الأمر الذي بدأ يثير قلقنا حين بدأنا نستيقظ من النوم منتصف الليل، على وقع سماع أصوات خفيفة لا ندري مصدرها، وعندما نبحث عنها في أنحاء المنزل نجد أخي جالسا في المطبخ خلف الثلاجة وبيده كتاب، وعند تكرَّر الأمر، اضطررنا لإقناعه بالذهاب لطبيب نفسي، ولكنه رفض كونه يجد أن لليل متعة في القراءة. وفور قبلوه للدراسه بإحدى الجامعات، واضطر للعيش بعيدًا عنا، في سكن الطلاب، بدأ الأمر يزداد سوء، وبدأت الشكاوى تأتينا من إدراة الجامعه بعدم قبول أي طالب مشاركته غرفته؛ لأنه يقوم بأمور غريبة؛ فيتحدَّث في الليل مع نفسه، وينام فترة النهار بعد المحاضرات ويستيقظ ليلا، ويصدر أصواتًا غريبة.

ويكمل: بدأنا نخاف من أن تكون لديه مشكلات نفسية، أو أن يكون الموضوع أكبر كأن يكون مسحورا؛ فوالدتي تعتقد بأنَّه يحتاج لقارئ قرآن أو أن يذهب لخبراء الطب الشعبي، وبالفعل بدأت تزور أكثر من مكان، فمنهم من يقول بأنه مسحور والآخر يقول بأنه مريض بمرض غريب، وغيره يقول إنه بحاجه لجلسة استخراج جن، وقد تلقى أخي العديد من الضربات والعديد من الآلام من جراء الزيارات المتكررة لهؤلاء الناس، ومع الوقت بدأ أخي يشعر باكتئاب غير قادر على الاستمرار، لا يقوى على أن يتناقش أو يحاور أحدا، يصرخ في الليل ويعيش حالة من الرعب والذعر، ويحتضن كتاب في الليل وهو ينام، بدأنا نقلق عليه فعليًّا حتى ذهبنا به لطبيب نفسي وما كان منه إلا أن أخبرنا أن هذه الحالة يمرُّ بها الكثير من الناس، خاصة إذا كانوا مهوسين بالقراءة والاكتشاف، يولدون ويعيشون وكأنهم مختلفين عن غيرهم فيتعزز لديهم هذا الشعور، ويعيشونه ويستلذون بأنهم مختلفون ولا يقارنون بأحد، ولكي يكونوا استثناء يجب ان يكونوا على اطلاع واسع، فمن وجهة نظرهم الاجتهاد سمة من سمات هذه الشخصية. وأخبرنا الطبيب بأننا السبب في الحالة التي وصل إليها لأننا لم نعرف كيف نتعامل معه.

ويضيف أخو "س.خ": لم يعد أمامنا سوى العمل على تغيير فكره وإعادة حياته للحالة الطبيعية التي كان عليها، فأخذناه في جولة خارج البلاد إلى أوروبا لعدد من الدول وجعلناه يزور المتاحف والمكتبات ويقتني ما يشاء من الكتب، وكانت حالته طبيعية يعيش كما يريد، عاد كما هو وكما اعتدنا عليه، ولكن الصعب في الأمر أننا حين طلبنا منه العودة للوطن كان يبكي بشدة من رفضه العودة، وكان يردد: "لن أعود، اتركوني هنا وارحلوا، هذا مكاني الذي انتمي إليه"، فبدأت تعود إليه حالة الخوف والفزع، التي لم نلحظها إلا بسبب الطب الشعبي الذي مارسوا خلاله أنواعا مختلفه من العذاب عليه، بدأت حالته النفسية تعود للحالة الأولى، وما كان منا إلا أن عدنا لأرض الوطن، مُجبِرين أخي على العودة وفي حاله سيئة ومزرية، اتصلت بالطبيب وطلبت رؤيته، وأخبرته بما جرى كاملا، فطلب مني إحضار أخي للعيادة وبشكل دائم خلال الأسبوع مرتين، وبدأنا فعلا كورس علاجي له، بدأ يحب العيادة أكثر من أي مكان آخر، وبدأ يتذكر مواعيده ويطلب مني أخذه لرؤية الطبيب، ومع الوقت عادت حياته الطبيعية، ولكنه عاد للحياة الغريبة، التي يقرأ خلالها في الليل خلف الثلاجة أو الغسالة أو خلف الكراسي، تحت إضاءة خافته، عاد للبحث عن كتبه، وعاد لاستكمال دراسته التي فرضت علينا أن نحجز له غرفة خاصة حتى لا يفزع منه الطلاب.

واختتم أخوه بالقول: لا يمكنني أن أقدِّم أي لوم لزملائه الذين يتحاشون مجالسته أو البقاء معه، فنحن في المنزل لا نقوى على فهمه أو التأقلم معه، ولكننا كنا نضطر للامتثال للأمر الواقع، كانت ملامحه حزينة، وكئيبة وبنظارته الطبية التي يخفي خلفها عينيه الصغيرتين يشعرني بالحزن معه لأنني لا أقوى على مساندته، ومرت الأيام هادئه وبدأت إدراة الجامعه تتقبل الأمر، حتى صدمتنا الإدارة باتصال تقول فيها إنها لا تستطيع أن تكمل المنحة لأخينا وتم إيقافها نهائيا لأنه شخص مريض لا يقوى على أن يعيش بين الطلاب، هنا كان الأمر بالنسبة لنا صعبا وبالنسبة إليه أصعب، فقد اكتشفنا أنه كان يأخذ كتب الطلاب ويجمعها في غرفته حتى انصدمت الإدارة من كم الكتب التي تضمها غرفته، مما دعاها لفصله، وها هو الآن يعيش في غرفته نوفر له مأكله وملبسه وكل ما يحتاج إليه ومجموعة كتب يتسلى بها، دون أن يخرج مع أحد أو أن يتوقع أحدهم أن لدينا أخا يعيش مع نفسه، فبرغم الترف الذي نمتلكه لم نستطع أن نقدم له شيئًا ولا استطاع أن يعيش الترف الذي نعيشه.

تعليق عبر الفيس بوك