الطائي: عبقرية فن المالد تكمن في تخلص الجسد من الواقع العقلاني المحاصر بالقيود وانطلاقه إلى آفاق روحانية سامية

محاضرة ثرية حول "الرموز والدلائل الروحانية في فن المالد" بدار الأوبرا السلطانية

في ليلة صوفية بامتياز، احتشد الحضور مُنصتا بسمو روحي إلى المحاضرة الثرية التي قدمها الدكتور ناصر الطائي مستشار مجلس الإدارة للتعليم والتواصل المجتمعي بدار الأوبرا السلطانية، والتي نظمتها اللجنة الثقافية لمهرجان مسقط 2016 بالتعاون مع دار الأوبرا السلطانية، وحملت المحاضرة عنوان "الرموز والدلائل الروحانية في فن المالد" بمشاركة فرقة أريج الفنية وفرقة سداب للمالد.

وخلص الطائي إلى أنَّ عبقرية فن المالد تكمُن في أنه يدفع الجسد للتخلص من الواقع العقلاني المحاصر بالقيود، كي ينطلق إلى آفاق صوفية وروحانية سامية.

الرُّؤية - مدرين المكتوميَّة

تصوير/ راشد الكندي

واستهلَّ الدكتور ناصر الطائي محاضرته بالحديث عن الخصائص العامة للموسيقى العربية؛ حيث تطرق فيها إلى البدايات.. وقال: "یبدأ المستشرق البریطاني هـ.ج فارمر مؤلف كتاب "تاریخ الموسیقى العربیة" بالإشارة إلى الفارق الكبیر بین الموسیقى الشرقیة التي تفهم أفقیًّا والموسیقى الغربیة التى تفهم رأسیًّا؛ إذ تتمیز الأولى بالنغم والإیقاع والزخرفة الصوتیة، وهي الأمور الغریبة على الأذن الغربیة، والحقیقة أن العرب جعلوا من صناعة الآلات الموسیقیة فنًّا رفیعًا، فهناك رسائل في صناعتها، كما اشتهرت مدن بذلك، مثل بغداد في العراق وأشبیلیة بالأندلس، وهناك دلائل كثیرة على أن العرب كانوا محسنین ومبتكرین للآلات الموسیقیة". وأضاف الطائي بأنَّ الفارابي (950م) یقال عنه إنه مبتكر الربابة والقانون، ولقد أحسن الحكم الثاني (976م) البوق، وأضاف زریاب القرن (القرن 9م) إلى العود وترًا خامسًا، واشتهر العباس وأبو المجد (القرن 11م) بصناعة الأرجن، أما صفي الدین (1204م) فقد ابتكر القانون المربع المسمي بالنزهة وآلة أخرى تسمى (المغني)، ورغم وجود بعض مدونات موسیقیة من القرن التاسع، فإن التألیف الموسیقي كان سماعًا بالأذن وغیر مكتوب، كما كتب في الموسیقى المسعودي (957م) في "مروج الذهب"، والأصفهاني (967م ) في "الأغاني" وفي الغرب نجد كتاب "العقد الفرید"، لابن عبد ربه (940م).

النظريات الموسيقية

وأشار الطائي إلى النظريات الموسيقية.. وقال إن أصحاب النظریات الموسیقیة يتصدرهم الخلیل بن أحمد صاحب "العروض" (791م) ثم إسحاق الموصلي (850م) الذي كان مجددًا صاحب مذهب ومخترع إیقاعات وألحان، وكتب في الموسیقى النظریة المتأثرة بالیونان منها الكندي (874م) وكان له سبع رسائل في نظریة الموسیقى وفي الإیقاع، الى جانب الفارابي (950م) صاحب كتاب "الموسیقى" الكبیر، الذي ذكر فيه أن سبب تألیفه للكتاب هو ما وجده من النقص والغموض في أعمال الیونان الموسیقیة. وتابع الطائي أن للإمام الغزالي (1111م) فلسفة مهمة في الموسیقى؛ حيث يرى أن القلب الإنساني ینطوي على أسرار وأحوال، وأن الألحان والأنغام هي التي تظهر تلك الأحوال، وذلك من خلال التشابه الإیقاعي بین الأنغام الموسیقیة والأحوال النفسیة، وحدد كذلك أنواعًا من الموسیقى لها تأثیر الترقي والتهذیب على النفس والحث على الشجاعة والخصال الحمیدة؛ حیث قال "إن في أعماق النفس الإنسانیة شوقًا نحو شيء عظیم مجهول، والموسیقى هي التى تحرك هذا الشوق وتؤججه"، كما تحددت نظریة للفن عند الغزالي في كتاب "آداب السماع والوجد" و"إحیاء علوم الدین"، حیث فند حجج التحریم للغناء والموسیقى، ووحد بین النفس السویة وتذوق الفنون الجمیلة، حین قال "من لم یحركه الربیع وأزهاره، والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج لیس له علاج".

السماع الصوفي

وتناول الطائي في محاضرته الذكر والسماع الصوفي؛ حيث قال: "یؤمن المولویون (نسبة إلى مولانا جلال الدين الرومي) في المذهب الصوفي بالتسامح وبأهمیة الموسیقى كوسیلة للتعبیر عن الحب الالهي؛ حيث یقومون بالذكر عن طریق رقص دوراني مصوحبا بالموسیقى، ویسمى السماع والتي تعتبر رحلة روحیة تسمو فیها النفس إلى أعماق العقل والحب لترقى إلى الكمال، ولقد تعامل المتصوفة مع السماع والرقص كوسیلة لترقیق القلوب والنفوس وترویض الأجساد، وكان الرقص الصوفي، وبراءة الروح والجسد معا، بالدوران نحو الحق، ینمو المرید في الحب، فیتخلى عن أنانیته لیجد الحقیقة فیصل إلى الكمال، ثم یعود من هذه الرحلة الروحیة إلى عالم الوجود بنمو ونضج بحیث یستطیع أن یحب كل الخلیقة ویكون في خدمتها". وأضاف أن الذِكر هو مجموعة من الابتهالات والأدعیة والأناشید الدینیة ولكل حلقة ذكر رئیس یسمى "رئیس الزاویة"، ویبدأ الذكر عادة بتلاوة من القرآن الكریم، ثم الابتهالات والأدعیة حسب كل طریقة یعمد المتصوفون إلى تنظیم رقصات یرتدون فیها تنانیر واسعة، ویقومون بحركة دورانیة، یقولون إنها جزء من مناجاة الخالق، ويرى راقصو التنورة أن في دورانهم تجسیدا للفصول الأربعة، وأن الصلة بین العبد وخالقه تنشأ عندما یقوم الراقص أو اللفّیف، برفع یده الیمنى إلى الأعلى وخفض الیسرى إلى الأسفل بقصد الصعود إلى ربه.

احتفالات العالم العربي

ومَضَى الطائي موضحا أن عددا من الطرق الصوفیة الشهیرة في المغرب يحيي لیلة ذكرى المولد النبوي بتلاوة الأذكار والمدائح والأناشید الدینیة ببعض المدن المغربیة التاریخیة، فالزاویة التیجانیة بمدینة فاس تستقطب الآلاف لإحیاء المولد النبوي، وفي مدینة سلا قرب الرباط ینطلق موكب "الشموع" من ضریح زاویة مولاي عبد لله حسون؛ حیث یحمل المُحتفلون شموعا مُلونة وضخمة ویطوفون بها أسوار المدینة القدیمة. وأضاف الطائي: "تعرف مدینة مكناس أجواء احتفالیة خاصة، یتداخل فیها البعد الروحي بالإقتصادي الاجتماعي والثقافي أیضا، ففي هذه الأیام حج الناس من مناطق المغرب المختلفة لزیارة الشیخ الكامل أو الهادي بنعیسى، الذي یقع ضریحه بالمدینة القدیمة، ویضع الزوار على الضریح الشمع وماء الزهر، وبمجرد دخول طائفة من الطواف تسمع هتافات الصلاة والسلام على رسول الله، ویمنع لبس الأسود أو الأحمر لأن هذا اللون یثیر التوتر والهیجان لدى أصحاب الطائفة، ويتزايد الخشوع والبكاء والإغماءات المتتالیة عند لحظة الذروة، ویهتفون لله أن یبلغ مقصدهم ومرادهم. وزاد أن الحال كذلك في مصر، حيث يمارس الصوفيون طقوسا غریبة ومثیرة، عندما یحتفل أهالي محافظة قنا (جنوب البلاد) بالمولد النبوي الشریف، مستخدمین السیوف والخناجر وعددًا من الطقوس المختلفة في مركز دشنا شمال المحافظة للاحتفال بالمولد النبوي الشریف، ومولد أحد أهم أقطاب الطرق الصوفیة الشیخ جلال الكندي، كما یقوم أهالي المدینة بتركیب الخناجر والسیوف داخل أجسادهم والنوم على الأرض فوق بعضهم بعضًا، ویعتلیهم بعض المواطنین وبعض السیوف والخناجر، وتتخلل الاحتفالات عروض الطرق الصوفیة التي یبارون فیها بالتبارز بالسیوف وغرز الدبابیس في أنحاء من أجسادهم دون أن تصیبهم أدنى جروح والرقص على أنغام المزمار البلدي، وذلك بحضور الآلاف من أهالي مركز دشنا.

الموسيقى العمانية

وانتقلَ الطائي بعد ذلك إلى الحديث عن الموسیقى العمانیة التقلیدیة؛ حيث ذكر أنها متنوعة وثریة في لغتها الموسیقیة وصیغتها الفنیة وأسالیب أدائها اللحنیة والإیقاعیة فهي تعكس العلاقات الاجتماعیة والثقافیة التي نسجها العمانیون عبرالقرون مع محیطهم الجغرافي والاجتماعي العربي والآسیوي والإفریقي، وهي دائما ما تكون مرتبطة بمناسبات معینة ولیست لذاتها، ويتم خلالها التركیز على الصوت ومحدودیته، الى جانب أهمیة الإیقاع الكاسر والرحماني، وهي موسیقى جماعیة ولیست فردیة، مع غیاب الآلات الموسیقیة باستثناء "البرغام والصدفة والطبول"، كما ترتبط بالأداء الحركي، الى جانب تأثرها بالثقافات الآسیویة والافریقیة؛ مثل: "اللیوا، الطمبورة، الباكت...إلخ".

ومضى الطائي قائلا: إنَّ الدكتور یوسف شوقي یعرف فن المالد في معجم موسیقى عمان التقلیدیة بأنه: "الإحتفال بالمولد النبوي الشريف، في الیوم الثاني عشر من شهر ربیع الأول، وفي كل عام ویقام أیضا في العدید من المناسبات الدینیة والإجتماعیة مثل: لیلة الإسراء والمعراج، ومساء الاثنین والخمیس، أو الجمعة من أیام الأسبوع، وفي مناسبات الختان، وفي الأعراس، وعند الانتقال إلى بیت جدید وغيره من الاحتفالات". وأوضح ان هذا الفن يعتمد على ذكر الرسول -صلى لله عليه وسلم- من خلال التعلق به (ص) والذي یجب أن یكون في كل حین، ويحض هذا الفن على ضرورة أن يملأ ذكر النبي الكريم النفوس، وأنه يتعين على الدعاة والعلماء أن یذّكروا الأمة بالنبي صلّى لله علیه وسلّم، وبأخلاقه وآدابه وأحواله وسیرته ومعاملته وعبادته، وأن ینصحوهم ویرشدوهم إلى الخیر والفلاح ویحذّروهم من البلاء والبدع والشر والفتن على مدار العام.

أنواع المالد

ويذكر الطائي أن المولد الشریف یبعث على الصلاة والسلام المطلوبین بقوله تعالى "إن لله وملائكته یصلّون على النبي یا أیها الذین آمنوا صلّوا علیه وسلّموا تسلیما"، والمالد الرسمي التقلیدي الذي یقام في المناسبات الدینیة، والمالد المسحوب مالد قیام وتأمل یقام خلال زیارة قبور الأولياء، ویشمل الجلالة؛ تجلیلا واجلالا لقدر الولي أو الشیخ، وهناك مالد العود الكبیر، وهو مالد عام وشامل ویعرف ایضا بالهوامة ویتخلله قراءة البرزنجي وكتب السيرة النبوية، وتأتي حسب المناطق والطرق المعتادة. وأوضح ان هناك موْلِدُ الْبَرْزَنجيّ السید جعفر بن حسن، وموْلِدُ سمط الدُّرَر للسید علي بن محمد الحبشي، ومولد الدَّیْبَعيّ للشیخ العلامة عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الدَّیْبَع الیماني الشافعيّ، ومولد النَّبهانيّ.

وأوضح ان فن المالد یؤدى على أجزاء منها "الروایة" و"مبدأ المالد" و"الروایات والشواهد"، والقیام وذلك یؤدى وقوفاً عندما تصل الروایة عند لحظة ولادة رسول الله، والهوامة، وهي تؤدى في صفین متقابلیین إنشاداً متناغماً في النغم والإیقاع والتوحید. وبين الطائي أن للمالد عوائد روحیة وإجتماعیة تسهم في تقویة الرباط الروحي والعائلي الاجتماعي، ویخلو من التركیز على العائد المادي؛ حیث كان یقدم في السابق من قبل متطوعین ویدفع مبلغ معین للمسؤول فقط "الشاووش" والذي یصرف المبلغ من اجل تسییر أعمال الفرقة.

تعددیة التقدیم

ولفت الطائي إلى أحد جوانب فن المالد، وهو تعددیة التقدیم؛ سواء فرديًّا أو جماعيًّا من حيث التناوب بین الارتجال الحر (الروایة) وبین الاجزاء الملحنة (الاناشید)، والتناوب بین القراءة والإنشاد، ویشارك في الأداء رجال یجلسون على الأرض ویواجهون بعضهم البعض في صفین متعادلین، ویتألف أحد الصفین من المنشدین الإنفرادیین ویجلس في الصف المواجه عدداً مماثلاً من المشاركین یسمى صف الردیدة أولاد المالد، ویقوم بدور الرد الكورالي على المنشدین المنفردین، موضحا أنه بعد تلاوة القرآن الكریم، تبدأ قراءة الفصل الأول من سیرة الرسول الكريم (مولد البرزنجي) ویؤدى كل سطر أو بیت من الروایة بلحن إنفرادي وبإسلوب مرتجل وبإیقاع غیر موزون ویعقب كل سطر جواب أو رد یتمثل في جمل موسیقیة قصیرة ذات إيقاع واضح تؤدیها المجموعة.

وأبرز الطائي أن ثیمات الموت والذكر والغیاب تمثل لحظات روحانیة مركزة في حیاة الإنسان بشكل عام، كما یمثل استذكار السیرة النبویة لأشرف الأنبیاء والمرسلین قمة النشوة الإنسانیة والرغبة في التواصل مع الخالق، وتساعد في هذه اللحظة عوامل فنیّة وحسیة مثل البخور والنحیب وطلب المغفرة والاعتراف بالخطیئة، والضرب على الأرض والسجود؛ حیث یخرج الجسد عن واقعه العقلاني المحاصر بالقیود ویحلق في آفاق روحانیة لایدركها العقل الإنساني. وبين أن فن المالد یشمل لحظات الوجد والهیام والعشق الرباني الخالص المجرد من المادة وهي أصفى اللحظات الإنسانیة للتقرب مع الخالق دون حواجز، ومن هنا تبرز أهمیة الحفاظ على هذا الموروث الدیني في أشكاله الدینیة والروحانیة الصافیة البعیدة عن التصنع والابتذال.

تعليق عبر الفيس بوك