السلطنة والنفط.. عصر جديد من التحديات

محمد أنور خميس اللواتي

مع انهيار أسعار خام النفط، تدخل السلطنة عهدًا جديدًا من التحديات. فقد شكل النفط والغاز حوالي 84% من إجمالي الإيرادات الحكومية، وحوالي 45% من إجمالي الدخل القومي عام 2014م. إن انخفاض أسعار النفط يفرض واقعًا جديدًا يجب التعامل معه بدقة عبر إيجاد حلول جذرية غير تقليدية، بالإضافة إلى اتباع الوصفات التقليدية من زيادة الدخل وخفض النفقات الحكومية.

وصل مزيج برنت إلى 115 دولارًا للبرميل الواحد في منتصف عام 2014م، وصاحب ذلك زيادة هائلة في النفقات الحكومية وانخفاض في بناء الاحتياطيات النقدية. كان التركيز منذ بداية عصر النفط في السلطنة على بناء البنية التحتية والاهتمام بالصحة والتعليم والخدمات. رغم وجود الرغبة الجامحة في بناء الوطن، ورغم الإنجازات المحققة والتي لا تخفى معالمها، إلا أنّه كثيرًا ما صاحب تلك الأهداف السامية والمساعي النبيلة البذخ في الإنفاق الحكومي، وضعف في الكفاءة والإنتاجية خصوصًا مع غياب أهداف مؤسسية واضحة مبنية على مؤشرات لقياس الأداء وبيئة عمل محفزة. وقد تعدت الثقافة الاستهلاكية المؤسسات الحكومية وأضحت جزءا من واقعنا خلال سنوات الطفرة النفطية، كما باتت المطالب المالية تتصدر هموم العاملين من دون ربطها بمعايير إنتاجية.

إنّ استمرار انخفاض النفط يفرض على السلطنة اتخاذ حلول سريعة لزيادة المداخيل الحكومية عن طريق زيادة الضرائب، وكبح جماح النفقات عن طريق رفع أو تخفيض الدعوم المقدمة وتقليص النفقات غير الضرورية، والاستفادة من الاحتياطيات المتراكمة و القروض لتمويل العجز. بالإضافة إلى ذلك، يجب العمل بشكل متسارع على استمرار الإصلاحات الهيكلية في الاقتصاد، ومراجعة خطط التنمية، وسياسات التنوع الاقتصادي، وتفعيل مبادىء الثواب والعقاب وفق مؤشرات أداء محددة سلفًا، وتطبيق مبدأ الشفافية.

تملك السلطنة معدلات اقتراض منخفضة مقارنة بالناتج المحلي حتى الآن. إلا أن الاقتراض لتمويل المصاريف الجارية يشكل عبئًا كبيرًا على الاقتصاد، ويعتبر عملية غير مستدامة. لذا يجب توجيه مبالغ الاقتراض على أنشطة استثمارية تكون ذات عائد مستقبلي يفوق كلفة الاقتراض بعد تعديل معدل المخاطرة.

كما أنّه لدى السلطنة احتياطيات مالية متواضعة مقارنة بالدول الأخرى في المنطقة. وتعتبر صناديق الثروة السيادية هي واحدة من الوسائل للاحتفاظ بالاحتياطيات المالية لدى الدول النفطية. ورغم أن استخدام الاحتياطيات المتراكمة يعتبر واحدة من أسهل الطرق لتمويل العجوزات، إلا إنه أكثرها خطورة، حيث تعد هذه الاحتياطيات مشاركة للأجيال القادمة بجزء من الثروة النفطية. كما أن بيع وخصخصة الشركات الحكومية لأجل تمويل العجز الحكومي ينتج عنه إيرادات لمرة واحدة فقط، في حين ينتج عنه فقدان الأرباح المستقبلية الدورية.

إنّ رفع الإيرادات الحكومية وخفض النفقات يعتبران أيضًا حلولا سريعة، ومستدامة في معظم الأحيان. وقد أعلنت الحكومة عن حزمة من الإجراءات في هذا المجال منها رفع معدلات الضريبة، وتعديل تعرفة الكهرباء والمياه للاستخدامات التجارية والصناعية والحكومية، وتعديل الأسعار المحلية لبيع الوقود والذي بدأ بالفعل العمل به، ووقف التوسّع في الهياكل التنظيمية للوزارات والوحدات الحكومية. إنّ تقنين أو رفع الدعم الحكومي سيعمل على ترشيد استهلاك الكهرباء والمشتقات النفطيّة، وخفض التأثيرات البيئية، وتوجيه هذا الدعم للفئات الأكثر حاجة له، وتوجيه الأنشطة الاقتصادية إلى عمليات أكثر إنتاجية، بالإضافة إلى تقليص المصاريف الحكومية. وقدم مجلس الشورى مجموعة من المقترحات لقطاع التعدين، وقد استجابت الهيئة العامة للتعدين في السلطنة لأحد المقترحات عبر إصدار قرار برفع نسبة الأتاوة على الشركات العاملة في القطاع من 5% إلى 10%.

وتعد الضرائب هي المصدر الأساسي للدخل الحكومي في معظم دول العالم، ومع نضوب النفط ستعتمد سلطنة عُمان هي الأخرى على الضرائب كمصدر من مصادر الدخل القومي. وتشكل الضرائب في السلطنة حوالي 5% من إجمالي الدخل الحكومي أو حوالي 2% من إجمالي الناتج المحلي، وهي نسبة صغيرة جدًا. ويبرز ذلك أهميّة تحسين النظام الضريبي، وتوسيع القاعدة الضريبية، وتحسين كفاءة تحصيل الضرائب عبر الاستعانة بكوادر مؤهلة وأنظمة فعالة وعقوبات كبيرة، مع مراعاة الأبعاد الاجتماعية والعدالة والبيئة الاستثمارية الجاذبة. وسيعمل ذلك على تعزيز المداخيل الحكومية، وسيؤسس لعهد ما بعد النفط. إنّ التمعّن في النظام الضريبي في الدول المتقدمة كفيل بالتعرّف على مواضع الضعف في النظام الضريبي المعمول عليه حاليًا. فمثلًا تفرض الدنمارك ضرائب على تسجيل السيارات الجديدة تصل إلى 180% كحد أقصى، غير الضرائب الأخرى التي يتحملها صاحب السيارة. رغم اختلاف الظروف بين البلدين، إلا إنّ السلطنة تستطيع أيضًا فرض ضريبة إضافية على السيّارات الفارهة والأقل كفاءة في استخدام الوقود. كما يمكن للحكومة مراجعة نسب الضرائب على الشركات الكبيرة، وعلى الشركات التي لا تلتزم بمعايير التعمين المقررة.

وينبغي مراعاة أنه لا يمكن فرض أي ضرائب أو رسوم إضافية على المواطنين أو المقيمين أو الشركات العاملة إلا إذا صاحبه تحسن ملموس في الخدمات الحكوميّة المقدمة، ورفع الكفاءة في الأجهزة الحكوميّة وفق أهداف محددة سلفًا ويتم حسابها بشكل دوري. فمثلًا عند فرض أي رسوم جديدة على أي خدمة، يجب أن تقدم الحكومة خدمات محسنة مقابل تلك الرسوم الإضافية. كما أنّه من حق المواطن معرفة أماكن صرف تلك الضرائب أو الرسوم بشكل مفصّل مما يتطلب المزيد من الشفافية من قبل الحكومة في أوجه الإنفاق.

بالإضافة إلى الحلول التقليدية من زيادة المداخيل وخفض النفقات، فإن السلطنة بحاجة إلى اتخاذ خطوات كبيرة من أجل استدامة النمو الاقتصادي، خصوصًا تحت الظروف الحالية التي يواجهها الاقتصاد العماني. إنّ وجود مشكلة معينة، والاعتراف بها، يساعد في البحث عن حلول خارج النطاق المألوف. فكل جهة قادرة على أن تبدع أكثر في مجالها لتقديم حلول لتقليص النفقات، وزيادة الأرباح، ورفع الكفاءة من خلال خلق بيئة في تلك الجهة ترحب بالأفكار الجديدة مستفيدة من الخبرات المتراكمة. إنّ القضاء على البيروقراطية، ورفع كفاءة الجهاز الإداري للدولة، وإلغاء أو إعادة هيكلة بعض المؤسسات التي تشكل عبئًا ماليًا وإنتاجية منخفضة، وتسهيل الإجراءات، وتعزيز الحوكمة، وتشجيع البيئة الاستثمارية، ودعم بيئة عمل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتحسين القوانين المتصلة بالعمل والعمال، والتحول للحكومة الإلكترونيّة، والشفافية الكاملة في إدارة النفقات والمداخيل، تعد جميعها متطلبات جوهرية لتحسين الفعالية الحكومية، ومواجهة التحديات الاقتصادية.

إن تحسين كفاءة الطاقة مرتبط بسعر الطاقة، حيث إنّ السعر المدعوم للطاقة لا يخلق حافزًا كبيرًا للمستهلك في تحسين كفاءة الأنظمة التي يستخدمها أو تقليص الهدر. إلا أنّ تحسين كفاءة الطاقة مرتبط أيضًا بالتشريعات والقوانين التي تسنها الجهات الحكومية. وهناك الكثير من الأمثلة التي يمكن أن نسوقها في هذا الشأن مثل التشريعات والقوانين في استيراد الأجهزة والمعدات، وفي البناء، وفي التصنيع، وفي تسعير الكهرباء في أوقات الذروة، وغيرها. كما أنّ التحرك سريعًا في مجال تحسين النقل العام يعتبر واحدا من أساسيّات المدينة الحديثة، ومطلبا ضروريًا يجب على الجهات المعنية العمل عليه للاستخدام الأمثل للطاقة. هناك أيضًا دور كبير للمؤسسات البحثية في السلطنة لتقديم رؤاها في تحسين كفاءة الطاقة في السلطنة، وللمؤسسات الإعلاميّة لأداء واجبها في زيادة وعي المستهلك بأهميّة كفاءة الطاقة.

كما تلعب الطاقة المتجددة دورًا حيويًا في استغلال الموارد الطبيعية، خصوصًا أنّ الكثير من الدراسات الاقتصادية أشارت إلى الأهميّة الاقتصادية لطاقة الرياح والطاقة الشمسية في السلطنة. خاصة أنّ معدل كثافة الطاقة الشمسيّة في بعض المناطق في السلطنة يعتبر عاليًا جدًا مما يبشر بدور متزايد للطاقة المتجددة خصوصًا مع تحسن التكنولوجيا لاستغلال وحفظ الطاقة المتجددة. ومن المهم الإشارة إلى أنّ السلطنة بدأت مؤخراً بالاستفادة من هذين الموردين (الشمس والرياح) من خلال عدة مشاريع يعتبر أهمها مشروع "مرآة" الذي يسعى إلى استغلال الطاقة الشمسية في توليد البخار الذي يستخدم بدوره لاستخلاص النفط الثقيل، وسيعمل ذلك على الحد من استنزاف الغاز وتخفيض التكاليف في الوقت ذاته.

عولت السلطنة كثيرًا على مصادر أخرى للدخل مؤخرًا من خلال استثمارات كبيرة في القطاع السياحي، والمجال اللوجستي، والصناعات السمكية. لذلك لا بد من متابعة النتائج بشكل سليم يضمن تحقيق أكبر عائد، وإصلاح أي خلل ناتج أو قد ينتج. كما عملت الحكومة على تطوير الكثير من البرامج للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة لتعزيز دورها في الاقتصاد العماني، إلا أنّ ترتيب السلطنة انخفض في تقرير ممارسة أنشطة الأعمال. فيجب سن التشريعات المنظمة، ومراجعة البرامج المطروحة، ومحاربة الاحتكار لضمان قيام مؤسسات صغيرة ومتوسطة فاعلة.

إنّ الاستثمار في الإنسان هو استثمار من أجل مستقبل السلطنة، وهو مطلب أساسي للاستمرار في خلق اقتصاد منافس. فتنمية رأس المال البشري هو الأساس الضامن لنجاح الخطط المستقبلية. كما أن التغييرات في أماكن اتخاذ القرار ضرورية حتى يظل العطاء مستمرًا، خصوصًا أنّ النهضة المباركة قد أولت جانب بناء الإنسان العماني أهميّة بالغة خلال السنوات الماضية. فقد حان الوقت أن يكون هذا الجيل الجديد المفعم بالحيوية، والمليء بالحلم والأمل لمستقبل أكثر إشراقًا، والمؤهل علميًا وعمليًا أن يكون شريكًا كاملًا في صنع أي قرار وطني.

إنّ استمرار انخفاض أسعار النفط، وارتفاع تكلفة الإنتاج، بالإضافة إلى العمر الافتراضي للنفط في السلطنة يفرض علينا تسريع الجهود المبذولة للتنويع الاقتصادي، واتخاذ إجراءات سريعة وخطوات كبيرة أصبح أمرًا حتميًا خصوصًا أنّ الحلول لا تأتي إلا مع الأزمات. إلا أنه في المقابل يجب أن تكون الإستراتيجية وفق رؤية واضحة تتبناها الحكومة وتعرض على الشعب، ليعمل الجميع وفق تلك الرؤية، حيث لا تقع المسؤولية على جهة واحدة دون الأخرى أو مؤسسة دون أخرى أو فرد دون آخر، بل على جميع أبناء هذا الوطن الغالي دون استثناء.

تعليق عبر الفيس بوك