مأزق أهم الثوابت في سياسات واشنطن وطهران!

عبيدلي العبيدلي

يتوسط الشرق الأوسط، وفي القلب منه البلاد العربية، العالم، وعلى وجه التحديد القديم منه. هذا يجعل من السمات الرئيسة للمشهد السياسي الشرق أوسطي تعذر استمرار موازين ثابتة للقوى الفاعلة فوق ساحته. يفسر ذلك الحركة المستمرة لموازين القوى، الناجم عن عمق تدخلات القوى العالمية الكبرى وارتباط المنطقة بكيانات خارجية ذات تأثير واضح على المنطقة.

تعرض توازن القوى في الشرق الأوسط، في الآونة الأخيرة، لسلسلة مُعقَّدة من التغيُّرات المستمرة والاهتزازات البنيويَّة مست هياكله السياسية، ونسيجه الاجتماعي، الأمر الذي يضع مهمة استعادة أي شكل من أشكال التوازن أمام تحدٍ حقيقي يرغمها على فهم الآليات التي تنظم العلاقة بين الأطراف الضالعة في الصراع في إطارها المعاصر من خلال القراءة الصحيحة للاستراتيجية الأمريكية، بوصف كونها اللاعب الدولي الرئيس في المنطقة، في ضوء التحولات التي عرفتها الاستراتيجية الأمريكية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، ومعه حالة الثنائية القطبية التي كانت تنظم العلاقات الدولية من جانب، ونجاح الثورة الإيرانية في الإطاحة بنظام الشاه في نهاية العقد السادس من القرن الماضي من جانب آخر، لكونها أحدثت تغييرا نوعيا في طبيعة التحالفات التي كانت تسود المنطقة، دون إهمال أدوار القوى الإقليمية الأخرى، وفي المقدمة منها الكيان الصهيوني.

ولا بد هنا من فهم علاقات اللقاء والتناقض بين المشروعين الأمريكي والإيراني، الذي يحدد دور كل منهما في تجيير محصلة الصراعات المحتدمة في هذه المنطقة الحيوية من العالم لصالح المشروع الإيراني كمخطط إقليمي، تقف وراءه طهران من جهة، وبما يخدم السياسات الأمريكية، ويستجيب لمشروعاتها لهذه المنطقة من جانب آخر.

ومن يريد القيام بمثل هذا التمرين، عليه قراءة الثوابت والمتغيرات في سياسة كل من واشنطن وطهران من أجل إعادة رسم خارطة المنطقة في سياق ضمان التفوق على اللاعبين الآخرين، والحفاظ على مصالح كل منهما، سواء عند بروز الخلافات، أو عند تلاقي تلك المصالح.

هذا يتطلب التوقف عند المحطات الرئيسة والتحولات المفصلية، دون التوهان في القضايا التفصيلية اليومية التي تحرف الرؤية الاستراتيجية عن مسارها، وتجرد المتابع من القدرة على فهم التاريخ على نحو صحيح، وتشخيص الواقع بشكل سليم، واستقراء المستقبل بطريقة علمية.

ولعل أبرز الثوابت جميعا فيما يخص السياسة الخارجية الأمريكية، هو سقوطها عاجزة في مستنقع أحادية قطب العلاقات الدولية، والتي توقعت من خلاله واشنطن إحكام قبضتها على مجريات الأمور في ساحة العلاقات الدولية، بما يضمن سيطرتها بشكل أساسي، ويحمي مصالحها على نحو متواصل. ولهذا رأينا التمدد العسكري الأمريكي منذ مطلع هذا العام في قارات العالم القديم، بدءا من أوروبا، مرورا بآسيا، وأخير وليس آخرا في إفريقيا، وهو ما يكشفه القرار الأمريكي الأخير بإرسال قوات عسكرية للتدخل المباشر في ليبيا.

هذا على المستوى الأمريكي، أما على المستوى الإيراني، فمن أهم الثوابت التي تستحق التوقف عندها هو الحيز الذي تمثله إيران، مقارنة بدول المنطقة العربية الأخرى، من حيث التعداد السكاني، والمساحة الجغرافية، والامتداد الجيوسياسي، الأمر الذي يعطي إيران مكانة متقدمة على سواها من الدول العربية منفردة، ويبيح لها، من وجهة النظر الإيرانية، المطالبة بموقع متقدم يميزها عن سواها من دول المنطقة، وعلى أكثر من صعيد.

هذا يفسر التمدد الإيراني، السياسي، في البلاد العربية، كما نشهده في اليمن، ومن قبله العسكري في سوريا، وبطبيعة الحال الجيو-سياسي في العراق. وبالقدر ذاته يعكس توجهات السياسة الإيرانية تجاه المنطقة. وعلى نحو موازٍ يكشف نسبة عالية من المشروعات الإيرانية إزائها.

يشترك المشروعان الأمريكي والإيراني، دون أن يعني ذلك تطابقهما، تجاه منطقة الشرق الأوسط عمومًا، والبلاد العربية على نحو خاص، في إبقاء البلدان العربية، قدر المستطاع في أضعف حالاتها، على الصعد كافة: العسكرية، والاقتصادية، وبطبيعة الحال السياسية، بما يبيح لكل واحدة منهما على حدة تحقيق الفائدة القصوى مستفيدة من حالة الضعف العربي في حالة نجاح ذينك المشروعين، اللذين يواجهان مأزقا مشتركا هو إضعاف البلدان العربية، قد يبدو سهل المنال. ربما ذلك ممكنا لفترة محدودة تحكمها ظروف معينة تحيط في الوقت الراهن بالبلاد العربية، لكنه ليس حالة سرمدية غير قابلة للتحول بما يؤهل العواصم العربية لإفشال المشروعين، كل من خلال نواقص الضعف التي يُعاني منها، وهي ليست قليلة، وقابلة لأن يستفيد منها الغير، بما فيهم البلدان العربية.

فعلى الجانب الأمريكي، هناك شهادات متعددة، من بينها تلك التي يكررها نعوم تشومسكي، التي تعترف بمظاهر الضعف التي تُعاني منها المؤسسة الحاكمة الأمريكية التي من شأنها تجريد واشنطن من الكثير من مقومات القوة التي تبيح لها التفرد بصنع القرار في المشهد الدولي، ويرغمها على إشراك قوى أخرى، الأمر الذي يفسح في المجال أمام البلدان العربية التمرد على أيّ مشروع عربي يعارض مصالحها القومية. وهذا بدوره يضع المشروع الأمريكي أمام مأزق حاد إن لم يكن قاتل.

على نحو مواز تتمتع البلدان العربية وبلدان الخليج على وجه الخصوص، إن هي توصلت إلى الحد الأدنى من التنسيق، أو حتى تقليص الخلافات الثانوية، وعدم تغليبها على التناقض الرئيس مع طهران. ومن الممكن أن يتم ذلك وفق صيغ تطورية تأخذ زمانها الذي تستحقه، دون تلكؤ غير مبرر، أو تسرع غير مطلوب.

كل ذلك يضع المشروعان الإيراني والأمريكي أمام مأزق حقيقي، لا يخرج أي منهما منه سوى بالإقرار بالحق العربي، الذي هو بالنسبة للعرب القضية الفلسطينية، وبالنسبة لطهران، الخروج من بوتقة التعالي الممزوج بشيء من الرغبة بفرض الشروط من منطلقات غير منطقية، لم تعد تقبل بها قوانين العصر أو مستوى تطور الشعوب.

 

تعليق عبر الفيس بوك