الطريق الثالث للتنمية

د. سيف المعمري

لا تزال التحليلات والتوصيفات لكيفية مواجهة الأزمة المالية الناتجة عن انخفاض أسعار النفط مستمرة، لكن الحلول المستدامة غائبة عن المشهد، وكل ما يطرح أسبوعيًا في مختلف المنتديات التي أوجد بها مجرد صراع بين نخب رسمية واقتصادية وفكرية ومدنية للدفع بمسؤولية فشل سياسات تنويع البنى الاقتصادية لطرف دون آخر.. ولن يستفيد المواطن البسيط الذي يخشى من أن يؤثر تفاقم الأزمة المالية على كثير من جوانب حياته من كل هذا التجاذبات غير البناءة التي لا تقود إلى التأسيس لانطلاقة حقيقية بقدر ما تهدف إلى الحصول على مكاسب باسمه حتى في ظل وجود الأزمة الماليّة، على اعتبار أنّ ما لم يتم تحقيق في الأوضاع الاقتصادية العادية ربما يحظى بمشروعيّة شعبية في مثل هذه الأوضاع.

إنّ الواقع التنموي في البلد لا يزال يمضي وفق طريقين حتى الآن، الطريق الأول هو الطريق الحكومي، أمّا الطريق الثاني فهو الطريق الخاص، وهناك تداخل كبير بين هذين الطريقين في تسيير كثير من القطاعات والسياسات التنموية فعلى سبيل المثال يحصل أن يؤسس مجموعة من المسؤولين الحكوميين جامعة أو كلية خاصة، أو مستشفيات خاصة، أو شركة أو أن يتولى بعضهم رئاسة مجالس مجموعة من البنوك والشركات، وبالتالي أصبح الطريق الأول العصا التي يتوكأ عليها الطريق الثاني حتى يصل إلى وجهته، ومن ناحية أخرى أصبح الطريق الثاني الأداة التي يعتمد عليها بعض أعضاء الطريق الأول في الحصول على بعض المنافع المُتمثلة في المناقصات الكبيرة، وبالتالي فإنّ الاستمرار في نفس الرؤية التنموية لن يساعد على بناء "نظام اقتصادي جديد للمستقبل"، وما يرتبط بذلك من تغييرات في مختلف القطاعات والسياسات التعليميّة والاجتماعيّة، ولذا لابد من التفكير في طريق ثالث لتحقيق ذلك الهدف، ومما يبرر الاتجاه إلى هذا الطريق هو حالة القلق من صعوبة تحقيق البدائل الاقتصادية والاستدامة، وضعف الثقة بين الطريقين الأول والثاني في إيجاد تفاهمات تقلل من ضغط ملفات وطنيّة في المستقبل القريب مثل "التعمين".

جاءت الدعوات إلى تبني الطريق الثالث في التنمية في آواخر القرن العشرين من مفكرين وسياسيين أدركوا أنّ الرأسمالية والاشتراكية كنظامين اقتصاديين وصلا إلى عجز في تحقيق تقدم اقتصادي، وإيجاد حالة من فرص المساواة لتحقيق الرخاء للجميع، وبالتالي كان التفكير في الطريق الثالث كما نظر له كل من الدكتور "ستيوارت وود" الأستاذ في جامعة أوكسفورد، وهو كما ــ يصفه العض ــ كان العقل المدبر للسياسة الفكرية لرئيسي الوزراء البريطانيين الأسبقيين "توني بلير" و"غوردون براون"، كما عبّر عن أهميّة تبني هذا الاتجاه عالم الاجتماع الإنجليزي "أنطوني غيدينز" الذي ألف في عام (1998) كاتب "الطريق الثالث: تجديد الديمقراطية الاجتماعية"، واشتهر بوضعه نظرية الهيكلة (Theory of structuration)، إن هذا الطريق يركز على خطورة تحرير السوق على الفئات الاجتماعية حيث تؤدي باختصار إلى إيجاد فئات محظوظة وأخرى أقل حظا، مما يجعل الدولة في مواجهة سؤال كبير وعميق ليس من السهل الإجابة عنه وهو مع من تتحالف في مثل هذا الوضع هل مع الفئات المحظوظة أم مع الفئات الأقل حظا؟ أو بعبارة أخرى لمن ستضع الدولة سياساتها الرامية إلى التعامل مع الأزمة هل للمحظوظين أم للأقل حظا؟ إنّ صعوبة هذه الأسئلة تكمن في أنّها تطرح في وقت اتخذت قرارات برفع رسوم كثير من الخدمات التي تقدم للمواطنين، مما يعني أنّ الفئات الأقل حظًا التي لا مصدر دخل لها إلا رواتبها هي من سيتأثر كثيرًا من هذه السياسات على المدى الطويل في حين تظل الفئات المحظوظة بمنأى عن تأثير هذه السياسات نتيجة ثبات وضعها الاقتصادي بفضل تمتعها من قبل بدعم كبير لمشاريع اقتصادية مختلفة سواء من حيث التسهيلات اللوجستية أو الوقود، أو فرص الحصول على تعاقدات حكومية وغيرها.

ينطلق الطريق الثالث للتنمية من رؤية تضامنية تقوم على الوعي والإدراك بوجود المصالح المشترك بين مختلف الفئات الاجتماعيّة والاقتصادية، وبالتالي لابد من إدراك أنّ أية أضرار تؤثر على فئات معينة ستقود إلى التأثير على الفئات الأخرى، وبالتالي فإنّ السياسات التنموية والاقتصادية لم تعد تتمثل في خدمة مصالح مجموعة على حساب أخرى ولا في أخذ أموال وفرص من مجموعة وتوزيعها على مجموعات أخرى، فالجميع لابد أن يساهم في تحقيق المصالح المشتركة حتى يزدهر المجتمع بأكمله ودرجات مرضية، كما أنّ الطريق الثالث للتنمية يركز على أنّ مساعدة الأفراد الأقل حظًا يجب أن تكون مسؤوليّة اجتماعية وليس واجب على الدولة فقط، حيث يعمل الأفراد الأكثر حظاً على مساعدة الأفراد الأقل حظاً، لكن من الصعوبة فهم مثل هذه الرؤية خاصة في وقت الأزمات، فعلى سبيل المثال إغلاق شركة نتيجة صعوبات مالية لا يعود ضرره على صاحب الشركة فقط ولكن على آخرين يقوم بتوظيفهم، وأيضًا على الدولة التي ستجد نفسها مطالبة بدعم أولئك الذين فقدوا وظائفهم، ما لم يوجد آخرون يستطيعون أن يتحمّلوا معها هذه المسؤولية.

ولذا يرى أنصار الطريق الثالث أهميّة تغير دور الدولة في التعاطي مع الشأن الاقتصادي والاجتماعي، فدورها الرئيسي هو مساعدة الناس على الوقوف على أقدامهم في مختلف الأوضاع من خلال ترسيم شبكة المسؤوليات وحدودها بين ما يجب أن تقوم به الحكومة وما يفترض أن تقوم به الجماعات والأفراد الآخرين، فالدولة هنا لا يجب عليها أن تحتكر القرار والفعل والتدخّل وتحمل نفسها عبء حل كل إشكاليّات المجتمع دون أن تكون قادرة على تحقيق ذلك، وبالتالي، وبالتالي تبرز الحاجة إلى وجود دولة لماحة وذكيّة وذات نفوذ وفاعلية عارفة أين تعمل، وأين يجب أن تسمح للآخرين بالعمل، ولذا لابد إيجاد طريق ثالث يسمح لجماعات مختلفة اقتصادية تعاونية وأهلية لأن تبدأ في تأسيس نفسها لمساعدة الدولة في حل بعض الإشكالّيات التي تقود إلى تخفيف التأثيرات التي يمكن أن تعاني منها الفئات الأقل حظاً على المدى الطويل فالهدف البعيد هو إيجاد اقتصاد قادر على التكيّف والاستقرار في ظل الأزمات.

يعطي الطريق الثالث للتنمية أهمية كبيرة لبناء وتأهيل والحفاظ على "رأس المال البشري"، حيث يتم الاهتمام بتطبيق أعلى معايير ضبط الأنظمة التعليمية والتدريبية في سبيل إعداد خريجين على مستوى عال من الكفاءة يتمكنون من الالتحاق بفرص عمل تحقق لهم دخول مرتفعة، بدلا من يتخرّجوا بمستويات متدنية تقودهم إلى وظائف ذات أجور منخفضة لا تكفي لتساعدهم على الابتعاد بمسافات بسيطة من دائرة الفئات "الأقل حظا"، مما يزيد من ضغطهم على الدولة للمساعدة في تأمين متطلبات عيشهم، حيث تجد الدولة نفسها على سبيل المثال قد دعمت الفئات الأكثر حظًا في تشغيل جامعات وكليّات لم تقدم لها إلا خريجين بمستويات ضعيفة جدًا لا تساعدهم على الحصول على فرص عمل في أي مؤسسة حتى داخل القطاع الحكومي نفسه، مما يجعلهم يرفعون شعار المساواة في فرص الدعم الحكومي، مما يتطلب قرارات جريئة تقود إلى إصلاح قطاعات التعليم تقضي على حالة التذبذب من استحقاقات التطوير والإصلاح التي تعود إلى أكثر من خمس سنوات، لكن استمرارها سنوات أخرى سيصعب من مهمّة المضي في الطريق الثالث للتنميّة.

إنّ الطريق الثالث يؤكد على أنّ تحقيق الفاعليّة والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي يتطلب "إعادة الهيكلة" للسياسات والمؤسسات القائمة عليها، خاصة إذا كانت هناك قناعات أنّ هذه المؤسسات والسياسات بهيكلتها الحالية لن تقود إلى إحراز تقدم في الملفات التنموية الرئيسيّة، خاصة تحت ضغط الأزمة المالية التي تدفع في اتجاه توفير المال بدلا من أن تدفع في اتجاه تنميته، مما يعني أنّ إعادة الهيكلة ضرورة ملحة بما تتضمنه من التحول التدريجي المدروس نحو مزيد من اللامركزية والمشاركة، والشفافيّة، ورفع كفاءة الدولة الإداريّة، وتعزيز قدرة الدولة للتعامل مع المخاطر وتحفيز نشاط المجتمع الأهلي الذي أيضًا أصبح في حاجة ماسة لإعادة الهيكلة فهو وسيلة للتنمية والنهوض وليس غاية للحصول على مراكز وواجهات اجتماعيّة للبعض.

تعليق عبر الفيس بوك