مشاهدات سينمائية من 2015

أمل السعيديَّة

يقول كانط: "إن ما يشغل العقل البشري، هو الأسئلة التي لا يمكنه صرفها، ولكنه أيضاً لا يستطيع الإجابة عنها. حسناً، ما الذي نتحدث عنه هنا؟ الأخلاق؟ الاختيار؟ عشوائية الحياة؟ الجماليات؟ القتل؟".

بهذه الافتتاحية يبدأ آيب برفيسور في الفلسفة، والذي يلعب دوره الممثل واكين فينيكس قصة فيلم "رجل غير عقلاني" الذي كتبه وأخرجه المخرج الأمريكي المعروف وودي آلن. هل مررت صديقي القارئ بتلك الحالة من السأم التي تود معها لو أنَّ حياتك تتوقف في هذه اللحظة؟ هل شعرت يوماً بأنك لا ترغب في أي شيء ولست تقوى على فعل أي شيء؟ هل تأكدت من أن الأسباب المقنعة للبقاء على قيد الحياة تكاد تكون معدومة؟ هذا بالضبط ما حصل مع آيب. مدرس الفلسفة الذي يعتقد أن الفلسفة تستطيع أن تنقذ الناس من المجاعات، من الحروب، من بشاعة هذا العالم والجرائم فيه. لا تخف عزيزي لن أحرق عليك قصة الفيلم، لكنك في هذا الفيلم بالتحديد ستكون أمام سؤال أخلاقي مثير للغاية: هل ستتفهم ما سيقوم به آيب؟ هل ستجد المبرر الذي يقدمه آيب مقبولا بالنسبة لك؟ وما علاقة راسكولنيكوف بطل رواية الجريمة والعقاب لديستوفيسكي التي يقرأها البرفيسور آيب بمجرى الأحداث في الفيلم؟ شخصيًّا أضحكتني الكثير من المواقف في الفيلم من بينها بالتأكيد حديث تلميذة آيب عن الفيلسوف الدنماركي المعروف كيركجارد وكيف تمكن من تجاوز بشاعة الحياة. رد عليها آيب: نعم هذا صحيح، لكن لا يمكن أن نغفل في الأخير عن أن كيركجارد مسيحي. لكن، ما سيحدث في هذا الفيلم هو تحول كبير، صحوة غير متوقعة، آيب سيحب الحياة، عندما يعتقد أن بإمكانه أن يكون أخلاقيا لا بالنظريات التي يكتبها عادة في فلسفته بل بيديه هذه المرة. حتى إنه سيحدث طلابه في الجامعة عن الفرق بين الفلسفة القارية والفلسفة التحليلية. حيث يقول: "لماذا "الفلسفة القاريّة"؟" لأن الفلسفة القارّية تتعامل مع المسائل الأكثر إثارة وشخصية من الفلسفة التحليلية. يحاول الوجوديون أن يكتشفوا ليس ما يعنيه أمر ما فحسب بل ما الذي يعنيه لي".

*****

فيلم "حمامة حطت تتأمل على غصن الوجود" للمخرج السويدي روي آندرسون. واحد من أهم الأفلام التي شاهدتها في عام 2015. شاهدت لهذا المخرج سابقاً فيلمه المذهل الآخر "أغاني من الطابق الثاني" في الحقيقة تدهشني قدرة هذا المخرج على التقاط الصمت، حتى في ألوان الكادر الذي يختاره، لم أكن أتخيل أن أشاهد صناعة متقنة للفراغ كما هي الحال مع سينما آندرسون. إنه يمنحك ذلك الوقت وتلك المساحة لتفهم ما يحاول إثارته في كل مشهد من هذا الفيلم. هذا الفيلم من ثلاثية "أن تكون إنساناً" وهو من إنتاج عام 2014. يقدم فيه آندرسون المأزق الذي يقع فيه الإنسان عندما يكون إنساناً، التناقض الأخلاقي، العته، الضجر، تحول الإنسان لآلة، الاستعباد، الجشع، استخدام الإنسان للسلطة، علاقة الإنسان باللغة. واحدة من تلك الأشياء المثيرة في الفيلم هي قصة إحدى الشخصيات التي تحاول تسلية الإنسان عبر بيع الألعاب الترفيهية، سرعان ما نكتشف أن اللعبة هي "أسنان مصاص الدماء"، وهنا إشارة مهمة لكون الإنسان أصبح يتسلى بمص دماء الآخرين من حوله. من المشاهد المثيرة أيضاً تجمهر مجموعة من الموظفين أمام أحد المحلات لانتظار وصول وسيلة النقل التي ستقلهم إلى مكان عملهم. يبدو عليهم التململ والضجر، يخرج البائع من المحل ويقول "ها هو ذا الأربعاء من جديد"، فيقول أحد الواقفين هناك: لقد ظننت أنه يوم الخميس، وهكذا يدور حوار بين جميع الواقفين على أن اليوم هو يوم الأربعاء. وهنا إشارة أخرى لغياب الإنسان عن حياته، أنَّه تم تحويلنا لآلات لصالح الوظيفة أنستنا الزمن، أن هنالك محاولة مستمرة لدفعنا باتجاه الكون كآلة ليس إلا. وفي واحد من مشاهد هذا الفيلم أيضاً، يدخل العبيد إلى برميل كبير، نلاحظ أنَّ هذا البرميل مزود بأبواق (ناقل صوت) كأن هذا الصراخ الذي يضج به البرميل لا يمكن للعالم أن يتبرأ منه لأنه مسموع.

يُشعل الجنود النار ويبدأ البرميل بالدوران والاحتراق بمن فيه. وهنا ترميز يقصد به صناع هذا الفيلم، الجرائم المتواصلة التي ترتكب بحق الإنسان على مرأى ومسمع من العالم أجمع. يخرج بعد ذلك من نفس كادر صورة البرميل، رجال مهندمون (برجوازيون)، يمكننا أن نفهم أنَّهم قادة هذا العالم، ومن أخذه إلى هذا الانحطاط. لكن هذه الجريمة تركت ملامحها عليهم فهم شيوخ طاعنون في السن ومثيرون للشفقة.

تعليق عبر الفيس بوك