آن الأوان لنتعلّم من الهند

د. سيف المعمري

تابعت مع كثيرين خلال الأشهر الماضية كثيرًا من النقاشات التي دارت حول أزمة انخفاض النفط وتأثيراتها العميقة على حكومات المنطقة الخليجية وشعوبها، حيث قادت كل هذه الدول إلى تبني سياسات ربط الأحزمة والتشدد فيها تدريجيًا مع معدل انخفاض الأسعار النفطيّة، وهو وضع لا يمكن أن تطيقه أو أن تصمد أمامه لا حكومات المنطقة ولا شعوبها على المدى الطويل، لأنّ الجميع تعود على حالة الترف غير العقلانية خلال العقود الماضية، ورغم تكرار مثل هذا الوضع إلا أنّه لم يدفع إلى اتخاذ إجراءات تقوم على تنمية بديلة لا تجعل دولا بأكملها رهينة لأسعار النفط التي تحددها قوى كبرى، وتحليل الخطابات الاقتصاديّة الحالية لا يشير إلى توجّه حقيقي لتبني سياسات تنموية بديلة إنما يقرأ فيها تبني سياسة يمكن أن أطلق عليها مسمى سياسات "الصرف في حدود الممكن"، وهذه تختلف كثيرًا عن سياسة يمكن أن نسميها سياسة "ضبط الإنفاق العام"، أو سياسة "تنمية الفوائض"، وبين السياستين فوارق جدًا واضحة، فالأولى يستمر فيها هدر المال العام نتيجة وجود نفقات وامتيازات غير ضرورية، أمّا الثانية فيتم فيها ضبط الانفاق في حدود الحاجات الضرورية للمؤسسة، أمّا الثالثة فيتم العمل فيها على الإنتاج وزيادة الإيرادات بدلا من استهلاك ما هو متاح.

إن ّما يجري اليوم من تحليل للوضع الاقتصادي.. هو تحليل للمفقود.. وليس تحليلا للموجود، ولن يجدي ما نقوم به من البكاء على "اللبن المسكوب" كما يقولون في اللغة الشعبيّة، وخير لنا ألا نجمع ما أهدرنا في منطقة الخليج من أموال وإمكانات خلال العقود الماضية وإلا فسوف نصاب بصدمة تعيقنا من التفرّغ لمقاومة الوضع الراهن، لذا فضرورات الراهن تتطلب التركيز على ما يجب أن نوجده، فالانشغال بما لم يتم إنجازه سوف يعيق ما يجب أن ينجز في مجال إعادة بناء التنمية على أسس اقتصادية مستدامة.. والإجراءات المُتخذة لابد منها مؤخرًا لابد منها.. لكن ليست كفيلة بتحقيق الاستقرار الاقتصادي .. لأنّها لا تزال تستند على السعر المتقلب للنفط.. والسؤال هو ماذا لو وصل النفط إلى سعر أقل من (20) دولار؟ ما العمل؟ قد تكون الإجابة هي نفس الإجراءات.. ولكن بنسب أعلى، وبالتالي نحن وصلنا إلى النقطة التي يجب فيها أن ننجز ما لم ننجزه في العقود الماضية، وأن نتّخذ القرارات التي تجنبناها من قبل، وأن نتعالى كثيرًا عن مصالحنا الضيّقة في مقابل تحقيق مصلحة وطنيّة أعلى وأهم يستفيد منها الجميع.. فعملية حساب الأرباح والخسائر في شركة صغيرة، أسهل من عمليّة حساب الأرباح والخسائر على مستوى دولة، لست من المتشائمين.. ولكنّي أيضًا لست من المتفائلين إن لم يكن أمامي ما يدعو إلى التفاؤل، وأرى أننا لسنا في مرحلة عجز اقتصادي؛ ولكننا لسنا أيضا في عملية تنمية اقتصادية حقيقية، ولست مع عملية تبادل اللوم في وقت الأزمات، فالمسؤولية في كل هذا مشتركة، تتعدد مستوياتها وتتدرج منازلها، ولكن لا يعفى أحد من تبعاتها..

لكن السؤال كيف نستطيع أن ننتقل من سياسات "الصرف في حدود الممكن"، إلى "سياسات ضبط الإنفاق"، إلى سياسة تحقيق "الفوائض"؟ والإجابة ليست سهلة؛ ولكنها ليست صعبة، ويمكن لنا أن نتعلم من دروس التنمية الاقتصادية البديلة التي حققتها كثير من دول العالم النامي من حولنا في العقدين الأخيرين، ومنها الهند التي أقرأ عنها منذ فترة محاولاً التعرف على بعض أسرار نهوضها الاقتصادي، وهنا سوف أضع بعض المفاتيح التي عرفتها، مع أهميّة معرفة أنّ الهند تفوقنا في عدد سكانها، وتختلف عنّا في عدم انسجامها نتيجة تعدد أديانها ولغاتها، وبالتّالي التحديات السكانيّة والثقافية والاجتماعية لم تعيق الهند من تحقيق طفرات اقتصاديّة تجعلها في مقدمة الدول الأكثر نموًا في العالم اليوم، كيف استطاعت تحقيق ذلك؟ هذا هو السؤال الذي لابد أن نبحث فيها ونحاول أيضًا أن نطرحه على أنفسنا ولكن بصيغة أخرى وهي لماذا لم ننجح في إحداث تنمية اقتصادية بديلة تقوم على تنوع اقتصادي رغم أننا رفعنا هذا الشعار منذ أكثر من ثلاثة عقود؟

يحكى أنّ الرئيس الهندي "مانموهان سينغ" قام في عام (1989) بزيارة إلى كوريا الجنوبيّة لكنه عاد مصدومًا جدًا لأنه وقف على حقيقة التقدم في كوريا الجنوبية التي كانت تتساوى مع الهند في معدل التنمية في عام (1945) ولكن تمكنت من مضاعفة دخل الفرد فيها إلى نحو (10) أضعاف دخل الهندي خلال أربعين عاما فقط، وتزامنت هذه الصدمة مع الانتكاسات الصعبة التي كان يمر بها الاقتصاد الهندي التي وصلت ذروتها في عاما (1989) عندما أضطر "راجيف غاندي" للاستقالة حيث خلفه "ناريسما راو" الذي كان عليه أن يواجه أزمة مالية وخللا في ميزان المدفوعات، وبالتالي وجد أنّه لا خيار أمامه إلا تبني إصلاحات اقتصادية حتى لو لم تحظ بتأييد شعبي، وفي عام (1991) كانت الخزانة الهندية خاوية تقريبا، وفي ظل ذلك بدأ راو يسعى إلى تقديم معالجات منهجية؛ بدأت من البحث عن العقول التي تستطيع التخطيط فاختار لوزير المالية رجل يدعى "مانموهان سينغ" الاقتصادي المتخرج من جامعة أكسفورد، واختار لوزارة التجارة رجل يدعى "بالانيبان تشيدامبارام" هو رجل تلقى تدريبًا اقتصاديًا في جامعة هارفارد، ومن ثمّ أصبح الأول في ما بعد رئيسًا للوزراء وأصبح الثاني وزيراً للماليّة، ومعهم وبهم بدأت حكاية النهوض الاقتصادي الهندي من ميزانية خاوية تقريبًا إلى اقتصاد ينمو بسرعة ليضع نفسه ضمن أكبر عشرة اقتصاديات تحقق أعلى معدلات نمو عالمية.

إذن الدرس الأول الذي يمكن أن نأخذ به للتعامل مع الأزمات. هو الاستناد إلى شيئين هما الكفاءات وتمكينها، وثانيا الاعتماد على التخطيط الذي يقود إلى تحقيق نتائج ملموسة ومتنامية تقود ليس إلى الخروج من الأزمة فقط ولكن إلى تأسيس نهج جديد للتنمية، ما الذي قام به هذان الاقتصاديان الهنديان في البداية؟ لقد قاما بتقليص الإعانات التجاريّة وخفض التعريفات الجمركيّة والحواجز غير الجمركيّة كما تمّ التخلص من القوانين الاقتصادية التي كانت تعيق حركة النمو الاقتصادي، وتعيق تنمية المؤسسات التجارية في البلاد، وكذلك عملا على التخلص من معوّقات الاستثمار الأجنبي، مما أدّى إلى انتعاش كبير لرجال الأعمال الصغار الذين خرجوا من صفوف التكنوقراط ذوي التعليم العالي، مما قاد إلى انتعاش القطاع الخاص الذي أصبح العمود الرئيسي لنمو الناتج القومي الهندي، بل إنّ بعض الشركات الهندية أصبحت علامات تجارية عالمية، وأصبح (90%) من العمال الهنود يعملون في القطاع غير الرسمي، نعم لم تكن هذه الإصلاحات الليبرالية للاقتصاد بدون تحديات وتأثيرات على بعض قطاعات المجتمع لكنّها أنقذت البلاد من حالة الإفلاس والتأخر الاقتصادي، والملاحظ أنّ هذه التوجّهات الإصلاحيّة أصبحت موجهات لعمل الحكومات الهندية المتعاقبة. ولم تقم أيا منها بمناوءتها رغم وجود بعض الأصوات المنادية بذلك داخل الأحزاب الهندية، ما الذي جعل الهند التي تستورد معظم طاقتها (70%) تقريبا من الخارج إلى تحقيق النهوض الاقتصادي؟ علاوة على عنصري الاستناد للكفاءات والتخطيط الجيّد، والقرارات الجريئة والمحسوبة، كما عملت الحكومة الهندية على تحفيز المؤسسات الصغيرة من خلال منع الشركات التجارية الكبيرة من دخول عدد من قطاعات الأعمال تاركة السوق يتعامل مع المؤسسات الصغيرة في تلبية احتياجاته، وهذا حال دون وجود شركات كبرى منافسة تقضي على آمال المؤسسات الصغيرة في النمو، كما عملت أيضًا على حماية أسواق التجزئة من أن يعمل بها منافسون أقوياء سواء كانوا محليين أم أجانب، مما أتاح أيضًا نمو هذا القطاع وثباته على المدى الطويل.

إنّ نموذج التنمية الاقتصاديّة البديلة في الهند وغيرها من الدول الناهضة تستحق الدراسة المتعمّقة، فهناك الكثير من الدروس التي يمكن أن نتعلّمها منها في التعامل مع الوضع الاقتصادي، فكل أزمة - إذا كنا سنتعلم ونأخذها بجدية- تمنحنا فوائد لا يمكن أن نشعر بها إلا بعد فترة من الزمن، فنحن ندرك أننا عاجلا أم آجلا لن نكون قادرين على الاعتماد على النفط؛ لكننا كل مرة نراهن عليه لا على قطاعات أخرى في ظل متغيرات متغيّرة، وندرك أننا لا بد أن نقوم بإجراءات إصلاحيّة متعددة في الاقتصاد وتنمية الموارد البشريّة فبهما يمكن لنا أن نتحرر من "رق البترول".

saifn@squ.edu.om

تعليق عبر الفيس بوك