صناديق خيريّة لدعم البحث والدراسة

زينب بنت محمد الغريبية

وأنا أتصفّح في النت - كقراءة حرة - عن عمل ومبادرات الجمعيّات والصناديق الخيرية، وما يشبه ما نطلق عليه نحن في الشريعة الإسلاميّة "الوقف" أي أن يتم استثمار مشروع ما بصفة دائمة يعود ريعه لعمل خيري، وجدت دولا غربية تنوّعت فيها أساليب التمويل لمشاريع الخير والوقف، إضافة للخدمات الأساسيّة للناس من كفل أسرة محتاجة أو تقديم ملابس أو طعام (راشن شهري) أو مكيفات تبريد هوائي، فقد تمّ وقف مشاريع من ورث رجال أعمال لتمويل بعثات دراسيّة وباحثين في الجامعات لدعم قضايا علميّة وأحيانًا مجتمعية ذات نفع للبلد، مما يسهم في تطوير ذاك المساق العلمي البحثي في البلاد وما يعود نفعه على المجتمع والبشرية جمعاء من اكتشافات أو تطور علمي.

وما هو أبعد من ذلك فهناك جمعياّت تتبنى باحثين في مجالات معيّنة بكافة تكاليف معيشتهم من سكن ومصاريف حياتية أساسية أخرى، وتستقطب بذلك باحثين من كل أنحاء العالم بعد دخولهم منافسة يفوز بها الأقوى بحثيًا وعلميًا ليقدم ما يرتقي بالهدف المنشود من الجمعيّة من خلال ما سيضيفه ببحثه ودراسته. إنّ عمل هذه الجمعيات الخيرية ورجال الأعمال عمل متقدم يسهم بالفعل في تبني العقل البشري المنتج؛ الذي لم يحالفه الحظ أحيانا في مستوى مادي يؤهله لاستثمار ما وهبه الله من ملكة فكرية.

في مُجتمعنا تكاد تغيب مثل هذه اللفتات الجميلة، التي تساهم في نشر العمل والتقدم البحثي والتجارب العمليّة، فكل هذا الجانب متروك للجهات الرسميّة، حتى أنّ أبناء القادرين ماديًا يحصلون على البعثات الحكوميّة التي تتكفل بها الدولة، على اعتبار أنّهم مواطنون مثلهم مثل بقية أفراد المجتمع، ومن حقّهم التساوي معهم في تلك الحقوق المُكتسبة، من حيث المبدأ هذا صحيح ولا يمكن إنكاره، ولكن إذا أخذنا الموضوع من باب التكافل الاجتماعي ومحاولة إعطاء الفرص وتعميمها على المجتمع، لنا أن نجعل أبناء من هم قادرون ماديًا أن يتعلموا على نفقة أهلهم ويتركون الفرصة لمن هم لا يستطيعون تكبّل تكاليف الدراسة، كمساهمة من القادرين في تشجيع الشباب على أخذ فرص العلم لأكبر شريحة ممكنة من الشباب.

كما أنّ البحث العلمي الممول، لا تموله إلا مؤسسات رسميّة، رغم حاجة المجتمع بشتّى قطاعاته للبحث والتقصي واكتشاف الحقائق، فلا يمكن لنا البدء بتطوير أي جانب من جوانب المجتمع سواء اقتصادي أم سياسي أم تعليمي أم تفاصيل دقيقة في أي جانب آخر من المجتمع، إلا بدراسة ذاك المجال والوقوف على متطلباته ومكوّناته والتحديات التي تواجهه ومراكز الضعف فيه، وكيفيّة التغلب عليها بالطريقة العلميّة الصحيحة، وكيفية تعزيز نقاط القوة في ذاك الجانب مجال الدراسة، وبذا يمكننا بالفعل الوقوف على تطوير ذاك الجانب بشكل علمي مدروس، وليس بالتطبيق العشوائي القائم أحيانًا على تكهنات أو دراسات عامة مبدئية مبتورة.

كل هذه الدراسات لا يمكن أن نجعل الجهات الرسميّة هي الممول الوحيد لها، فالمسؤولية المجتمعيّة لمن يملكون الرافد المادي يجب أن تظهر هنا أيضًا، من الممكن إنشاء مراكز بحثيّة تخصصية، وتخصيص جانب من أموال الوقف لمثل هذه الأمور، فما يحتاجه المحتاج من تطوير إمكاناته العلميّة والبحثية ومساعدته في تطوير الذات مكمل لما يحتاجه من مأكل ومشرب أيضًا، وإن تمت مساعدة عقل لينمو فسينمو صاحبه معتمدًا على ذاته، مساهمًا في التقدم لبلده، وإن تمت مساعدته ماديا ليأكل ويشرب ويلبس فقط، فسيبقى عالة على المجتمع طيلة حياته، ولن يسهم في الحياة إلا بزيادة شخص يسعى كادحًا من أجل تأمين لقمة عيشه، وقد لا يسعفه الحظ إلا بتلقي أساسيات التعليم أو ما يؤهله أحيانا لإيجاد وظيفة له يسد بها متطلبات الحياة، ورغم امتلاكه ملكات فكرية ومهارات علمية، بحاجة إلى تبنٍ ودعم حتى تؤتي ثمارها.

في برنامج على تلفزيون سلطنة عمان بالقناة الأولى، لا أذكر اسمه فقد بدأت متابعته من منتصف الحلقة للأسف، ولكن يبدو أنّه مرافق لفعاليات نزوى عاصمة الثقافة الإسلامية، كان فيه لقاء مع شيخ واعظ ديني يتبع وزارة الأوقاف، وكان يتحدث عن الوقف في التاريخ في مدينة نزوى، تحدث عن أشياء جميلة، ومما استدعى اهتمامي مزرعة قد أسماها ولكن لا يحضرني اسمها قد وقفها صاحبها وهو رجل علم، لتكون وقفا لمدرسة، كم جميل أن نهتدي بهدي أولئك العلماء، الذين استشعروا بالفعل قيمة العلم وأهميّته، وأنه لا يمكن أن ترتقي الأمم والمجتمعات إلا بالعلم، فما نتاج هذا العصر من تقدّم تقني وتكنولوجي ساحق ومتنامٍ إلا نتيجة الاهتمام بالعلم والبحث، وتمويله وصرف مبالغ هائلة عليه، ولكن في المقابل كل ما ينتج من هذه الأبحاث، تقوم عليه صناعات واختراعات، منها تستفيد البشريّة ومنها تحقق عوائد مادية على تلك الدول المنتجة لها، فنتاج البحث والاختبار الصحيح المبني على العلم بمساره الصحيح إنما يعد أحد مصادر تنويع الدخل أيضًا، فاستثمار العقول لإنتاج العلم والمعرفة والمخترَع الجديد في أي مجال كان، إنّما استثمار يسجل للوطن ويرتقي به ماديًا حضاريًا.

كلماتي المنتظمة على سطور هذ المقال دعوة منّي للاهتمام بهذا الجانب المهمل، لجانب البحث ودعم الباحثين، ودعم البعثات الدراسية والدارسين من أجل تحقيق التقدم في هذا المجال، ونصبح مجتمعًا نابضًا بالحياة الفكرية البحثية، عندما نتكلم عن قضيّة ما نستند على دراسات وافية فيها، فنتكلم من منطق عملي واقعي، لننطلق نحو تطبيقات منطقيّة علميّة مدروسة، ونشارك العالم في تقدمه وإنتاجه العلمي كجزء من البشريّة منتج للمعرفة وليس مستهلكًا لها فقط.

تعليق عبر الفيس بوك