أمل رغم الألم

ناصر محمد

هناك تقليد يتبعه كل جيل في آخر مراحله ألا وهو الإقرار بأن الماضي هو الأكثر أصالة من الحاضر والمستقبل، والمعيار المستخدم في عملية التقييم هنا هي الذاكرة التي تقوم بنسج الأحداث على رغبة صاحبها، وتخلق صورا مجردة من الأمنيات التي تتحول إلى حقائق في ذهنه. وتتصدر هذه الصور عالم هذا الإنسان في الحاضر ليقوم بالمقارنات المفقِرة للحاضر من كل جميل والتشكيك بكل معنى مفارق، فالشجرة ليست شجرة حية إلا إذا كانت في عالم الذاكرة بينما هي في الحاضر مجرد أوراق وغصون.

ليس الواقع لدى أغلب الناس سوى غياب الأمل، فالواقع هو الرتابة والفناء والملل، وهو المخالف تماما لما سطّرته فلسفة أو رواية أو شعر أو فيلم سينمائي، وتكثر الملاحظات على هذه المحاولات "التلطيفية" لحال الواقع بأنها ليست واقعية، أو أنها مثالية أكثر من اللزوم، أو أنها خديعة من خدع المدينة الفاضلة. وللذاكرة هنا، وهي خالقة الماضي، دور في دعم الخوف من الواقع والمجهول، وقد أشار الروائي التشيكي "ميلان كونديرا" إلى عنف الذاكرة في أغلب رواياته حين تحكم على حاضر البشر وتجعلهم مجرد أشباح أمام ماض سحيق، فالحياة ليست الحاضر بل هي ديكتاتورية الماضي الذي يشكك بالواقع ويسحقه.

إن استحضار الأمل في الواقع هو عمل شاق، فهو القيام على مدّ صلات المودة مع الأشياء بلا ذاكرة، أو بالأحرى هو العمل بلا مقابل، وهذا يعني أن تبدأ علاقة جديدة مع الحاضر والمستقبل، أي أن تتخلص من التاريخ وحاضنته الذاكرة. ولم يكن السويسري "هرمان هسه" عدوا للتاريخ إلا لأنه كان العقبة الكبرى لثقة الإنسان بنفسه، فهاهو يقول في مقالته "التاريخ" وتأثيره العظيم في سحق الحاضر: "علمت أنه كان واجب أساتذتنا في المدرسة أن يعملوا على سحقنا قدر استطاعتهم وكانوا يطالبوننا بفضائل هم أنفسهم لا يملكونها، والتاريخ الذي وضعوه أمامنا كان خدعة فبركها البالغون لكي يقللوا من شأننا ويبقونا في أماكننا. وليس من الغريب أن يستخدم هتلر، وهو ابن التاريخ البار، في كتابه "كفاحي" تلك العبارة المهووسة بالتاريخ: كل أمة ليس لها ماضي فهي ليس لها حاضر ولا مستقبل. مستحضرا للشبيبة الألماني مجد الدولة البروسية والرايخ والذي مهد بذلك إلى أبشع الحروب في التاريخ.

ليس من السهل أن تبدأ الخطوة الأولى في الحاضر، فالخوف من المصير يثبط كل خطوة ويبدلها بذكريات قديمة تسهل الهروب من الواقع، والخطوة الأولى بلا ماض وبلا ذاكرة يعني أن تتجرأ أن تكون عاريا أمام لحظة مستقبلية، أن تتقبل المصير وخباياه، أن تكون الذخيرة ذلك الشعور الذي يشكك فيه الجميع ألا وهو الحب، أن تتصالح مع الحاضر والمستقبل وتتخلص من عبء التاريخ الذي يصنّف البشر دينيا وقبليا وحضاريا، أن تعتقد بأن الأمل موجود أيضا في اللحظة الآنية والمستقبل وليس فقط مصمما للماضي. وكذلك القدرة على أن تحب من قريب وليس من من مسافة بعيدة، وأن تتخلص من عقدة المؤامرة التاريخية وتتحمل مسؤولية حريتك.

كثير من المؤشرات تدل على أن الأمل في وجود حياة أكثر احتمالا شيء يتحقق، حتى في أشد المراحل ظلمة في التاريخ تجد صرخات باحثة عن أغنية سلام وسط ضجيج مدافع الحرب، فليس هناك الآن تلك الجثث المتفحمة من وباء الطاعون، وانتهت آخر صرخة ألم من داء الكوليرا منذ زمن قريب، ويكاد ينسى العالم مرضا اسمه شلل الأطفال، ويلتفت الجميع الآن إلى تلك الفئة المظلومة تاريخيا من ذوي الاحتياجات الخاصة وصار لهم مكانهم المتساوي مع الأصحاء، وأصبح الطفل ذا قيمة تجعل الوالدين محرجين أمام السلطات بعد أن كان الطفل دائما محرجا أمام تسلط والديه، وارتفع شأن المرأة أمام طغيان الذكور التاريخي، وصارت حقوق الإنسان هي بؤرة الاهتمام العالمي بعد أن كانت سيادة الدول والايديولوجيات هي الغاية المنشودة.

لا يعني هذا طبعا أن هذه الإنجازات البشرية، القائمة على الأمل، بعيدة عن استغلال تلك الفئة التي تخاف من مصيرها ومن المستقبل. فهناك الجشعون والرأسماليون والمحافظون والتاريخيون والمراهقون والبلهاء والحمقى، هؤلاء الخائفون الذين حولوا الغايات إلى وسائل لغايات طفيلية دنيئة، مثل استغلال انتهاك حقوق الإنسان لتشريع الحرب على الإنسان، واستغلال الفقر لتضخيم الديون، واستغلال سأم البشر وخيبات أملهم من قبل تجار الوهم المبتذل. كل هذه الطفيليات موجودة في كل العصور، ولكن يجاورها دائما تلك الطاقة الحيوية التي تكشف زيف هذه الأقنعة وتفضح ابتذالها، إنها طاقة الأمل المغذية بالحب الواثق بالحاضر والمستقبل، وهي القدرة على الإيمان رغم أنف الألم، هذا الإيمان الذي عرّفه "هرمان هسه" في معرض حديثه عما يبدو في نظر البعض تناقضا في رؤية غوليان غرين للعالم: إنّي لا أرى أي تناقض، بالنسبة إلي الله هو الجوهر، والواقع كذلك. والعالم الذي يعيش فيه المؤمن، العالم اليومي المادي من حوله، هو ما يفصله عن الله. إنه يحول بينه وبين الله كما تحول غرفة أو منزل بيننا وبين الهواء والسماء. ولهذا لا شيء يثير اهتمامه في هذا العالم أو يفتنه، كما تفتنه الشقوق أو العيوب التي يعثر عليها في الواقع. إنه يندفع إلى هذه الشقوق، لأن العين من خلالها تبلغ مرأى الله. وعندما نرى غرين يحفر داخل شقوق العالم وعيوبه فإن ما يفته ليس الشقوق والعيوب والاهتداء، وإنّما ما يقع خلفها: الله.

تعليق عبر الفيس بوك