صناعة السياحة في عُمان.. متى يتحوَّل السراب إلى ماء؟

حَمَد العلوي

لقد حبَا الله عُمان بطبيعة جميلة وجغرافيا متنوعة؛ فهناك الجبال الشاهقة، كالجبل الأخضر وجبال مسندم وجبال ظفار، وهي جبال ذات تنوع بيئي متناسق، وهناك المروج الخضراء، والسهول والواحات، وهناك الصحاري، والرمال والكثبان الذهبية، وهناك الخلجان والسواحل، والجزر والبحار، والشعب المرجانية، وتتميَّز بالأعماق المتدرجة الصالحة للغوص، والإبحار الحر الآمن، والأرض العُمانية تحمل على سطحها إرثا عظيما من القلاع والحصون، وتتسم بتوزع الجغرافيا وتنوع المناخ؛ فهناك الواحات الزراعية، وهي تضم أنواع عدة من أصناف النخيل والاشجار المثمرة.

إنَّ المدرجات الزراعية التي ارتسمت على جباه الجبال، تعطي منظراً خلاباً قبل أن تعطي الثمار، فيُضاف إلى ذلك الأشجار المتنوعة التي شكلت بانوراما في ثغور الأودية والخيران، فبعضها طبيعي النشأة، والبعض الآخر من إبداعات الإنسان، وهناك أفلاج الري الآتية من الأعماق، أو السائرة على السطح، أو المسافرة في أحضان الطبيعة على سفوح الجبال والمرتفعات، مغردة بين الصعود والنزول، وهذه الأفلاج أوجدها عقل الإنسان وجهده، فجميعها تمثل تاريخًا رسمته عبقرية الإنسان العُماني الرائع، لذلك يجد المرء نفسه مأسورًا لهذا الجمال الإبداعي، الذي يغرد بثقافة تفرض وجودها على هذه الأرض المباركة بإحكام. ونحن -كعُمانيين- رغم حجم الثروة الكبيرة التي تمثلها الأبنية القديمة، المتمثلة في الحارات والقلاع والحصون، ولكن تجدنا نهملها أيما إهمال، وليس الإهمال فحسب، وإنما هذه الثروة التي كان الواجب ترميمها وتأهيلها للسكنى السياحية، فقد أخذ البعض يمحي وجودها، بغض النظر عمَّا تحمله من قيمة تاريخية عظيمة، ويستبدلونها بمكعبات إسمنتية، وكأن الأرض قد خلت من المساحات الفاضية، ولن يتأخر اليوم الذي سيأتي فنعرف قيمتها، فوقتئذ سيندم الناس على ذلك التفريط الكبير، ولكن بعد فوات الأوان بالطبع، والدولة يجب عليها أنْ لا تسمح بهذا التجني الفج على الميراث القومي للتاريخ والثقافة.

إنَّ المرء ليحدوه كبير الأمل -خاصة وقت الإجازات والأعياد، وحتى استراحة نهاية الأسبوع- أن يأخذ أولاده وعائلته، أو حتى أصحابه وزواره بالسيارة لأي بقعة في عُمان، ودون أن يفكِّر في أخذ المأكل والمشرب بقية الخدمات معه في رحلته؛ لأن مثل هذه الخدمات أصبحت حقًّا على الدولة أن تنسّق توفيرها.. وبأسعار معقولة، فيقضي الإنسان وقتا ممتعا في رحلته، وسيكسب الجميع من الرحلات الشيء الكثير، ومن أهم هذه المكتسبات: اكتشاف الجغرافيا العُمانية، والطبيعة الخلابة بتنوعها، وكذلك التعرف على تنوع الثقافات، وعادات الناس، والتعرف على أنواع الزراعة، وأساليب الري، وكذلك طرق البناء القديم، وكيف كان يعيش الناس في مجتمعات صغيرة متجاورة، وكيف ساد الحب والوئام بينهم بحكم الأعراف، وكذلك إذا ذهب باتجاه السواحل والجزر والبحار، فسيتعرف المرء أيضا على أوجه أخرى في ذلك الاتجاه، كسنن البحر، وإحرامات الصيد، ونظم التعايش بين الناس، وكيف كانوا يحمون محيطهم من القراصنة والمتطفلين.

ثم إن هناك أُناسًا -خاصة الأجانب- توَّاقون إلى معرفة الزمن البعيد، فيشدّهم كثيراً الاطلاع على القلاع والحصون والحارات القديمة، أو تشدّهم الرغبة في رؤية جمال الكثبان الرملية، والحياة البدوية في الصحراء، ويحدوهم الأمل أن يجد هذا التاريخ العظيم، ومن يعرف به وبتاريخه من أهله وصانعيه، وهم قد ملوا العمارات الشاهقة، والغابات الكثيفة، ومع ذلك، سيظل المشهد غير مكتمل، ما لم تُحَط هذه القلاع والحصون، وهي فرصة للإنسان العُماني بأن يقدم الخدمات للضيوف -غير التقليدية بالطبع- وإنما كبائع لمواد غذائية، وواجبات سريعة، كالهريس وخبز الرخال، والمشاكيك والأسماك المشوية، وسحناة القاشع والعوال والمالح، والباقل التمور، وغير ذلك الكثير، كما يجب أن يرافق هذا النشاط، أسواق من التراثيات، كما هي الحال في سوق نزوى، وهكذا ستحيَى وتنتعش السياحة في أرجاء الوطن.

إذن.. كم هو رائع أن تقصد قرية ما، وتجدها قد رُمِّمت، وأعيد كل شيء إلى مكانه الطبيعي؛ فالرحى التي كان يُطحن عليها القمح، قد نُصبت في مكانها، وأحيطت بالخيمة المصنوعة من سعف النخيل، لكي تحمي الرحى من الريح والمطر، وقد وضع عليها المطحان الذي تحرك به، وقد دُوِّن على لوحة قريبة منها طريقة الاستخدام أو حتى صورة فوتوغرافية للمشهد، وكذلك السبلة العامة، وقد استعادت مكوناتها، فأخذ "الصريدان" موقعه في قلبها، وهو موقد القهوة، والمعَاميل صُفِّت كلها حوله، كالمقلي والمحماس ودلة الخُمرة، ودلة التّغنيم والفناجين، وطاس الغسول، وبذلك تتحول حارة القرية إلى تحفة تاريخية، ووحدة سكنية جميلة، تأخذ الساكن إلى عبق التاريخ، فكل قرية أو حارة من الحارات، بتاريخها الطويل تشكل منجماً كمناجم الذهب.

... إنَّ من حُسن حظ العمانيين الأوائل أنهم أنجزوا بناء القلاع والحصون، والأفلاج والحارات، قبل أن يخرج عليهم بنكد هذا العصر، وعقده وتعقيداته، وإلا لما رأينا قلعة نزوى قد شيِّدت على شكلها المستدير، ولا حصن جبرين ظهر بنقوشه وزخارفه، ولا حوى عمرانه قاعتي الشمس والقمر، ولا قلعة نخل بنيت على ربوة جبلية، وإلا أعابها المهندس الاستشاري، ولما حظيت بالإباحتين الصغرى والكبرى من البلدية، ولو علموا بوجود نفق سري يربط بين قلعتي الرستاق والحزم، لحزموا الأمر على ردمه، كما يفعلون الآن في بناء المساكن، حيث يحكمون بردم طابق الأساس، ولو أنهم تركوه لنفع كمخزن أو غرفة للتمارين الرياضية، وقد جزمنا أننا بلد مُسالم، ولكن لا أحد يستطيع أن يجزم أننا لن يُعتدى علينا، وأننا لن نحتاجه كملجأ من خطر أي اعتداء.

تُرى متى نقتنع ونغيِّر الطريقة بالخروج عن المألوف المكرر، ونجرِّب أساليب أخرى، نشرك الناس في الرأي والقرار، وننطلق في أفق أفضل من الوضع الراهن، فالوضع الراهن ظل حبيس الممنوعات والعقد الملتوية، وقد لا نحتاج للنفط أو حتى مشاريع التعمين الصوري الإجباري، وأن ننسى حسبة الرسوم والربح العام المقدَّم؛ فعندما يتحقق الربح الخاص، فإن الربح العام سيأتي من تلقاء نفسه، ووقتئذ سنعمل على إثراء السياحة قبل أن تنْسق وتوارى الثرى!

safeway-78@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك