المجمع العربي للموسيقى.. كيان ثقافي طموح يعنى بتدوين تاريخ النغم استنادا لإسهامات الأجداد وإنجازات المعاصرين

مسقط - العُمانيَّة

يعدُّ المجمع العربي للموسيقى واحدًا من المراكز العلمية المرموقة على المستوى العربي، الذي يسعى لتوثيق هذا الفن المميز، والتأريخ لمختلف مراحل تطوره، بما يضمن تعريف الأجيال الحالية والمستقبلية بإسهامات أجدادهم في هذا الحقل الخصيب، علاوة على تسليط الضوء على إنجازات المعاصرين، من يجتهدون لإثراء تاريخ النغم.

وأكد الدكتور كفاح فاخوري أمين المجمع العربي للموسيقى، أنَّ المجمع ماض في طريق كتابة تاريخ الموسيقى العربية مثمنا الجهود التي يبذلها مركز عمان للموسيقى التقليدية التابع لمركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم بديوان البلاط السلطاني في هذا الصدد وتنظيمه السنوي للملتقى الذي يجمع المؤرخين الموسيقيين العرب. وقال فاخوري- في تصريح لوكالة الأنباء العمانية- إن مركز عُمان للموسيقى التقليدية، بالتعاون مع المجمع العربي للموسيقى، عقد حتى الآن ملتقيين حول تاريخ الموسيقى العربية؛ حيث نُظم الملتقى الأول في مسقط عام 2014 تحت عنوان "نحو قراءة جديدة في تأريخ الموسيقى العربية"، استعرضه ثلاثة وعشرين بحثا موزعة على خمسة محاور؛ هي: قراءة نقدية للكتابة التاريخية الموسيقية المتداولة، ومداخل كتابة تاريخ الموسيقى العربية، وتجارب نموذجية في تاريخ الموسيقى العربية، ونحو كتابة تاريخ الموسيقى العُمانية، وإشكاليات واتجاهات أفقية وعمودية في تاريخ الموسيقى العربية.

وأضاف فاخوري بأنَّ الملتقى الثاني -الذي اختتم أعماله في 17 ديسمبر الجاري بفندق مسقط إنتركونتننتال- ناقش 21 بحثا علميا محكما، وزعت على محاور "المرجعيّات الأساسيّة للكتابات الأجنبيّة مساهماتها وتوجهاتها وخلفياتها"، و"الكتابات الأجنبية عند الباحثين العرب المعاصرين"، و"استقصاء الكتابات الأجنبية وفق المدارس والاهتمامات"، كما استعرض "أثر المستشرقين على كتاب تاريخ الموسيقى العربية.. فن الصوت كنموذج"، و"مفهوم تحقيق المرجع الأجنبي مترجما حول الموسيقى والغناء في الكويت والبحرين".

وأوضح الدكتور كفاح فاخوري أن البحوث التي تضمنها الملتقى الثاني استعرضت عددًا من الأفكار المتعلقة بكتابات الأجانب حول الموسيقى العربية، واستخلاص ما تضمنته من ايجابيات وسلبيات في سياق تناولها للموسيقى العربية. وبين أن الملتقى توصل إلى أن هذه الكتابات تتضمن بالفعل ما هو إيجابي وسلبي، الأمر الذي يلقي على الباحثين الموسيقيين العرب- سواء المتخصصون منهم والمتدرجون- المسؤولية في ما يتعلق بعدم اهمال هذه الأعمال، وضرورة الاطلاع عليها بكثير من الحرص والتحري، واستخلاص ما تتضمنه مما هو مفيد ويصلح في كتابة تاريخ الموسيقى العربية، والنظر بعين تحليلية ونقدية في تفاعل الباحثين العرب المعاصرين مع هذه الأعمال.

وأكد فاخوري أنَّ كتابة تاريخ الموسيقى العربية مستمرة ومتواصلة، ولن تنتهي مرة واحدة، ويتعين في كل مرحلة إعادة قراءة ما تمت كتابته وتدوينه، مشيرا إلى أن المجمع العربي للموسيقى ومركز عمان للموسيقى التقليدية يقومان من خلال "ملتقى المؤرخين" بجمع الدراسات ووضعها بين يدي من سيكتب تاريخ الموسيقى العربية من المؤرخين والعلماء العرب، وسيؤخذ الجيد مما كتبه المؤرخون الاجانب في جوانب منه؛ حيث إن هذا التاريخ في حاجة إلى معالجة جديدة أكثر شمولية وتدقيقا في تفاصيل مكوناتها.

من جانبه، قال مسلم الكثيري مدير مركز عُمان للموسيقى التقليدية إن الملتقى الثاني للمؤرخين الموسيقيين العرب أوصى بأن يكون موضوع الملتقى الثالث الذي ستستضيفه السلطنة العام المقبل تحت عنوان: "دور الوثيقة في كتابة تاريخ الموسيقى العربية"، وفق أربعة محاور تشمل "الوثيقة المكتوبة (بمختلف أشكالها)"، و"الوثيقة السمعية والبصرية"، و"المسح الميداني"، و"البحوث الجامعية". وأضاف الكثيري أنه على طريق الشروع في حلقة العمل الكبرى في كتابة تاريخ الموسيقى العربية، أوصى الملتقى الثاني بالانطلاق من كتابة توثيقية تأسيسية ذات الصلة بتأريخ الموسيقى العربية، كما أوصى بالاستمرار في دعوة الباحثين الشباب من طلبة مرحلة الدكتوراة الذين يتناولون في بحوثهم موضوعات ذات صلة بتاريخ الموسيقى العربية، إلى أن يتقدموا بعروض حول إنجازاتهم، وذلك بغرض تشجيعهم وتمكينهم من الاستفادة من ملاحظات وتوجيهات الأساتذة المشاركين في الملتقى وايجاد حوار مثمر بين الطرفين.

وكان مركز عُمان للموسيقى التقليدية قد أعلن بمناسبة انعقاد الملتقى الثاني للمؤرخين الموسيقيين العرب عن ثلاثة اصدارات جديدة، شملت الدليل المصور "أنماط الموسيقى التقليدية العُمانية وآلاتها ومناسبات أدائها"، وكتاب شمل "بحوث الملتقى الأول للمؤرخين الموسيقيين العرب.. نحو قراءة جديدة لتأريخ الموسيقى العربية" وقرص مدمج مرفق بمقال تحليلي باللغتين العربية والإنجليزية من الغناء التقليدي العُماني.

وشملتْ البحوث -التي قدمت في الملتقى الثاني للمؤرخين الموسيقيين العرب- بحثا حول "أضواء على الكتابات الأجنبية حول الموسيقى العربية: الموسيقى العربية بعيون المستشرقين"، للباحث التونسي الأستاذ الدكتور محمود قطاط، وبحث حول "المصادر الفرنسية في تاريخ موسيقى المشرق العربي: قراءة نقدية في أبرز الأدبيات من القرن السابع عشر حتى مشارف مؤتمر القاهرة 1932" للباحث الدكتور عامر الديدي (من لبنان)، بجانب بحث بعنوان: "كتابات الأجانب الأوروبيين حول الموسيقى العربية في تونس من القرن السابع عشر إلى بداية القرن العشرين.. قراءة تحليلية ونقدية، للباحث الدكتور أنيس المؤدب (من تونس).

وشملت هذه البحوث "كتابات جورج صاوة بين النقل والنقد والإضافة والتحسين" للباحثة الدكتورة عزة مدين من مصر، وبحثا للدكتور حبيب ظاهر العباس من العراق حول آفاق الكتابات الأجنبية عند المؤرخين العرب المعاصرين بين النقد والتحليل، وبحثا ثالثا حول المقامات العربية بين منهجية التنظير الغربي وحساسية الممارسة الشرقية-دراسة نقدية لبعض الدراسات الغربية المعاصرة للأستاذة الدكتورة رشا طموم من مصر.

وقدم الباحث الأستاذ عبد العزيز ابن عبد الجليل من المغرب بحثا في "تاريخ الموسيقى العربية في شمال افريقيا من خلال كتابات المستشرقين الفرنسيين في القرن التاسع عشر - فرانسيسكو سالفادور دانييل نموذجاً"، وقدم الباحث الأستاذ مهيمن الجزراوي من العراق بحثا حول "تاريخ الموسيقى العراقية في كتابات المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون"، كما قدم الباحث الدكتور نبيل بن عبد العزيز من المغرب بحثا حول منهج ألكسيسشوتان في تاريخ ودراسة الموسيقى الأندلسية المغربية، اضافة الى بحث حول "تاريخ الموسيقى العربية في كتابات الأجانب- نقد وتحليل لجول روانيه" أعده الأستاذ الدكتور بديع الحاج من لبنان.

وفي محور "استقصاء الكتابات الأجنبية وفق المدارس والاهتمامات"، قدم الدكتور جورج أسعد من الأردن بحثا حول "التأثير الموسيقي العربي في الموسيقى العربية من وجهة نظر هنري جورج فارمر"، وقدم الباحث الدكتور عبد الله مختار السباعي من ليبيا بحثا حول "مساهمة المدرسة الأنجلوسكسونية في كتابه تاريخ الموسيقى العربية (هنري جورج فارمر نموذجاً)- دراسة استقصائية تحليلية نقدية"، وبحثا اخر حول "أُوين رايت.. نبذة عنه وعن أعماله ومنهجه البحثي ودوافعه المحتملة في تناوله مواضيع تخصّ الموسيقى العربية" للباحث الأستاذ الدكتور عبد الحميد حمام من الأردن.

وقدم الاستاذ الدكتور يوسف طنوس من لبنان بحثا حول "أمنون شيلواح الباحث في الموسيقى العربيّة، مصادر وخلفيّات"، وقدم الدكتور رامي الرجب من العراق "دراسة تحليلية نقدية: كتاب المقام لديفد موالم"، وناقش الدكتور رامي حداد بحثه حول "مراجعة نقدية لآراء المستشرقين الألمان المتعلّقة بالموسيقى العربية.. يورغن إيلسنر أنموذجا". كما ناقش الملتقى بحثا للدكتور أحمد عيدون من المغرب حول "ملامح المدرسة الفرنسية في تناول الموسيقى العربية"، وناقش الاستاذ الدكتور نبيل الدراس من الاردن بحثا حول "الاستشراق الموسيقي الروسي في الموسيقى العربية كظاهرة من نوع خاص"، وقدم الدكتور محمد قوجة من تونس "مساهمات المدرسة الاسبانية الحدیثة في كتابة تاریخ الموسيقى والحضارة العربیتین في الأندلس وموقعهما في حضارة اسبانيا وأوروبا".

من جهته، ذكر الدكتور عامر الديدي من لبنان -في خلاصة بحثه حول "المصادر الفرنسية في تأريخ موسيقى المشرق العربي: قراءة نقدية في أبرز الأدبيّات من القرن السابع عشر حتى مشارف مؤتمر القاهرة 1932"- أنه "يتبدّى في طيّات الأدبيّات الفرنسيّة التي تناولت موسيقى المشرق العربي من القرن السابع عشر حتى مشارف مؤتمر القاهرة 1932 أن الفكر الموسيقولوجي الغربي كان يتأثّر أحيانا بالعوامل الفلسفيّة والايديولوجيّة على الرغم من أننا لا ننكر أن دوافع مختلفة أفضت الى نتائج متشابهة في بعض الأحيان، ونجد أنفسنا بداية إزاء الفكر النهضوي الساعي الى توسيع مدارك الإنسان من خلال فهم مسهب لـ"الاخر" وفي نفس الوقت توق لمعرفة طبيعة الفنون أيام الحضارتين الهلينستيّة واللاتينيّة. وفي القرن التاسع عشر، لا تخفى على القارئ الفطن بعض النظرات الأوروبويّة في مقاربتها لموسيقى العرب إنما هذه التوجهات لم تفسد بالود قضيّة بل إن الفكر العلمي لم يتأخر ليطيح بأسسها الهشّة أصلا". وأضاف في بحثه: "نستخلص أيضا أهمية دراسة الأدبيّات التي تزخر بتوصيفات دقيقة وتحديدا علم الأورغانولوجيا، كما أنّه من الأهميّة بمكان إعادة قراءة وتسجيل الألحان الواردة في هذه الأدبيّات بعد أن تتمّ إعادة قراءتها على ضوء تقاليد ذلك الزمن وبالطبع تصحيح الشوائب التي اعترت سلالمها الموسيقيّة لسبب أو لآخر".

وفي بحثها حول "كتابات جورج صاوه ما بين النقل والنقد والإضافة والتحسين"، تقول الدكتورة عزة مدين إن صاوه لم يعن بمنهجية التأريخ الشامل العام للموسيقى العربية الذي اتبعه الغرب ‏لفترات طويلة، ولكنه اهتم في دراساته بفترة تاريخية محدودة في إطار 250 ‏عاما ‏على الاكثر ما بين 700-950م، وهذا في حد ذاته انشطار عن الأساليب ‏السائدة في الكتابة عن الموسيقى العربية المتأثرة بالدراسات الموسوعية ‏الشاملة عن الموسيقى العربية. وأضافت مدين أن كتابات جورج صاوة (وآخرين) بداية لنمط ‏جديد من دراسات تاريخ الموسيقى العربية، تعنى بفترات محددة تتم دراسة مصادرها ‏ومخطوطاتها وشرحها وملء الثغرات والفجوات لهذه الفترات بدقة ودأب وفهم ودراية نظرية وعملية تعنى بالاداء عنايتها بالنظريات، ويتم من خلالها تصويب ونقد ما سبق من دراسات وتحديد مصطلحات ومعاني المبهم من النصوص، بحيث ‏تتشكل صورة أكثر استدارة ووضوح عن تلك الفترات المختارة، مما يمكن من ‏ضخ الحياة في جوانب منها لا زال لها امتداد في موسيقانا المسموعة حتى الآن. وأوضحت أن صاوه لم يعن في أي من كتاباته بإثبات تأثير الموسيقى العربية/ موسيقى الشرق الأوسط العربي في العصور الوسطى، على الموسيقى الغربية، وهي نظرية ريبيرا (المدرسة الاسبانية) وهنري جورج فارمر الأثيرة، وبالتالي لم يعمد إلى أن يتطرق إلى الأشكال الغربية للموسيقى في العصور الوسطى ‏لتفسير أو شرح التقاليد العربية أو العكس. وأشارت الى أن المشروع الطويل الأجل عند جورج صاوه أثبت جدواه، فلقد حقق صاوه عددا كبيرا من مخطوطات وشذرات من كتابات عن الإيقاع وعن الألحان والأداء في تلك ‏الفترة التي قاربت الـ200 عام التي عُني بها، وأفضت إلى 3 كتب مهمة- وربما ‏فارقة- في تاريخ الموسيقى العربية للعصور الوسطى، وصارت لبنة أساسية ‏لكل من سيعنى بالبحث التاريخي في حدود تلك الفترة المسماة بـ"الفترة المبكرة من العصر العباسي"، وهذا التخصيص والتركيز والتمكن من ‏استخدام منهجيات الاثنوميوزيكولوجي لفهم الجانب الأدائي، أعطت صورة ‏وصوتا، وان كان لا يزال خافتا للموسيقى العربية في العصور الوسطى. ومضت تقول إن تمكن جورج صاوه من اللغة العربية كلغته الأولى ساهم في إعداد ترجمات أكثر دقة ذوات شروحات وهوامش تصويبية وتكميلية للدراسات السابقة للباحثين الأجانب، وساهمت في إثراء الدراسات التاريخية بوجود هذه ‏النصوص باللغة الانجليزية، كما ساهمت كتاباته في توفير فهارس وقوائم بأهم المصطلحات بالعربية بأحرف أجنبية (وهو ما يعرف بـ"الترانزليتريشن")، وكان لممارسة جورج صاوه للموسيقى العربية عمليًا كعازف قانون ماهر ومدرس بجانب قدراته الأكاديمية على التحقيق التاريخي الاثنوميوزيكولوجي، آثار ساهمت في إثراء تجربته الموسيقية وقدرته على الربط بين الماضي والحاضر بمنهج إثنوميوزيكولوجي عملي ثبتت فعاليته.

تعليق عبر الفيس بوك