قهر الرجال

جمال القيسي

لا يهمُّ أنك مُؤمن بما أُنزل على محمد -عليه الصلاة والسلام- أم اخترت طريقك بأن القصة، كلها، من أساطير الأولين.. أنت تمارس حقك في التفكير وإعمال (العقل)، الذي هو أولى من (النص) بالإعمال.

"... وأعوذ بك من قهر الرجال"، هذا ما استعاذ به النبي الكريم. الرجل الذي صنع من العرب أمة من لا شيء، وغيَّر الشكل الهش للوجود العربي في ذاكرة التاريخ، وقد كان أقوى تشكلهم السياسي، (رفادة وسقاية وخدمات مجتمعية سياحية)، أبدلهم عن ذاك دولة وذلك من شبه حاضرة (قبلية) في ثوب هيئة سياسية في مكة، وقد كانت شكلية، وتجاوزا على هيئة (الدولة الحارسة). والحقبة، آنذك، كانت بين مسيحية متسامحة في أطراف الخريطة العربية، ومرتبطة بروما ارتباطا روحيا دون عقد اجتماعي دولاتي (من الدولة)، ولو مفترض، بل بحكم توارث المسيحية لجميع من يصلون للسلام في بلاد السلام، واتباع روما المركزيةَ التي بحكم الانتماء الديني من المفترض أنها تقف على شؤون رعاياها. وأيضا جاء ذلك، في ظل سفسطة يهوديات متهالكة في التخوم، تزاود على المسيحية والإسلام بأنها منبع الأديان والأخلاق؛ فكان أن دحضت المسيحية السمحاء أراجيفها قبل أن يدلي الإسلام بدلوه، وبدعم المرجعيات المسيحية، بتهافت احتكار منابع الوحي وما إلى ذلك، أو على الأقل الوقوف إزاء ذلك موقف الندية بأحقية التنزيل والوحي.

النبي الذي حَرَف بعبقرية المعجزة التي لا تفسر بغير ما لا يمكن تفسيره (حسب تعريف اسبينوزا للمعجزة)، حرف أنظار إمبراطوريتين عن الغلو في التيه، وشهوة المُلْك، نحو تهديد جديد، لا هو حضاري بعد، ولا هو شكل جديد من أشكال الإمبراطورية المنافسة، بل مشروع ديني. لم يكن معاوية بن أبي سفيان قد شق لنا كعرب، وللإسلام كطرح أيديولوجي، طريقَ الدولة المدنية الحقيقية يا رعاك الله.. هذا النبي الكريم، القائد العربي العبقري المعجزة حد أن يكرر مليار ونصف المليار إنسان بعد قرابة 1500 عام ما كان يقوله قبيل نومه، ويحفظون ويكررون، بالضبط، ما كان يقول قبل شرب الماء، وبعده!
هذا النبي الذي رفض المساومة أو التفاوض على الدعوة رغم الاعتقال والسجن والحصار الاقتصادي. هذا النبي القوي الفارس الهمام، الصادق الأمين، بكل شجاعته وعظمة دوره التاريخي، الذي تترجم بعدا جغرافيا طال القارات. هذا النبي الكريم قال مستجيرا بربه: "...وأعوذ بك من قهر الرجال".

فما هو "قهر الرجال" الذي يتمنَّى عظيم مثل محمد بأنْ لا يصيبه؟.

أعتقد أنَّ القهر يحمل معنى نفسيا عميقا ومؤثرا في النفس البشرية. مثلا، أفهم في الوصية الإلهية في القرآن الكريم آية (أما اليتيم فلا تقهر) أرى فيها (بلغة مبسطة) أنها الحض -بل الأمر- على المؤمن باجتناب وتوخي الحذر بأنْ لا يكسر خاطر اليتيم؛ لأن اليتيم مكسور الخاطر باليتم أصلا، فهل يطيق بعد جرح اليتم كسرا! كأن المعنى القرآني الكريم يقول: كفى باليتم كسرا فلا تكسروه!

نعود لقهر الرجال؛ سمعتُ ذات مرة، قبل سنوات طويلة، من رجل بدوي، قصة طويلة مدهشة، (وبالعامية) لكن الأكثر إدهاشا فيها لدي كان مقطع القصة "أن الأب يصيح بولده وقد هجمت الضباع على الأغنام: اقهر يا ولدي. اقهر الضباع.. اقهر الضباع يا ولدي"، كنت سنتذاك فتى مقراءً أتفكر في آية "أما اليتيم فلا تقهر"، ففهمت معناها ببهاء التصدي للعدو الغاشم، وبمفهوم المخالفة (حسب قواعد الفقه الإسلامي) فإن ما يخالف التصدي هو الحنو والقبول والرضا. وربما هذا معنى ومراد "أما اليتيم فلا تقهر".
النبي الكريم حين كان يستعيذ بالله من قهر الرجال، كان يستعيذ بالله من غلبة الباطل للحق. وما أقسى أن يشعر الرجال بأن الباطل يغلبهم.

و"قهر الرجال" لعمرك، رزء جلل... يا لقهر الرجال يا ميم!

تعليق عبر الفيس بوك