هل نحن بحاجة إلى وزارة لتطوير التعليم؟ (1-9)

مرتضى بن حسن بن علي

التعليم خط الدفاع الأوَّل عن مستقبل الوطن

في كلمةٍ سامية لجلالة السلطان المعظم -حفظه الله ورعاه- للمؤتمر العام لليونسكو في دورته الثامنة والثلاثين المنعقدة في باريس (3-18 نوفمبر 2015)، بمناسبة الذكرى السبعين لإنشاء المنظمة العالمية، أكد جلالته عن دعمه لتوجهات المنظمة "في الارتقاء بمهارات الشباب وربطها بمهارات سوق العمل لمواجهة التحديات العالمية"، واصفا التعليم بأنَّه "الركيزة الأساسية لبناء الإنسان"، وتحدَّث جلالته عن متابعته بقلق "ما يجري في أوساط متعددة من العالم من صراعات ونزاعات مَبْعَثها عدم التفاهم وعدم قبول الآخر رغم اتساع دائرة القواسم المشتركة بين البشر" داعيا العالم إلى "تغليب خيارات السلام والحوار والتوافق من خلال قبول الآخر واحترام رأيه، ونبذ العنف والتصدي لكل الأسباب الداعية لذلك".

وفي خطاب له عند افتتاح الفترة الخامسة لمجلس عمان، قال جلالته: "ولما كان التعليم هو الركيزة الأساسية للتقدم والتطور، ولإيجاد جيل يتحلى بالوعي والمسؤولية ويتمتع بالخبرة والمهارة، ويتطلع إلى مستوى معرفي أرقى، فإنه لا بد من إجراء تقييم شامل للمسيرة التعليمية من أجل تحقيق تلك التطلعات، والاستفادة من فرص العمل المتاحة في القطاعين العام والخاص".

لا أُريد من مقالي هذا أن أفضي بسر استعصى أمره بشأن أزمة التعليم في السلطنة، كل ما أحاول أن أقوم به هو طرح ما لدي، تاركا أمره على المجلس الأعلى للتعليم والقائمين بأمر التعليم والمهتمين والقراء، راجيا وداعيا أن يكون فيه إسهام في حوار اعتقد أنَّه بات حيويًّا وضروريًّا من أية فترة مضت؛ من أجل إجراء عملية استكشاف واسعة وعريضة، لا بد أن نقوم بها جميعا حول هذا الموضوع المهم والخطير.

ومنذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن المنصرم، أصبح ملف التعليم يتم تناوله بصورة مستمرة وتصاعدية. وقد كشفت أحداث عام 2011 المؤسفة -وما زالت- أنَّ الملف التعليمي لم يُحالفه النجاح المأمول، ومعظم المشاكل التي ظهرت على السطح تعكس الإخفاق في تطوير وإصلاح ملف التعليم، في عالم أصبح السباق على أشدُّه في العلوم والتكنولوجيا وتطبيقاتها، في الأفكار وانتشارها، وفي العوالم واتصالها.

... إنَّ التغيُّرات العالمية المذهلة والتقدم التكنولوجي والمعلوماتي المتلاحق، والمستويات والمؤهلات الحقيقية والعملية لمعظم العاملين فعلا أو الباحثين عن عمل أو الخريجين من النظام التعليمي العام، جعلت التعليم ليس مجرد خدمة تُقدَّم، وإنما أصبح التعليم قضية وسلامة واستقرار ومستقبل اي شعب، وأمن أي بلد. ومن هنا يجب أن نواجه مسألة التعليم كوطن يشعر بأن التعليم هو خط دفاعه الأول ومحور مستقبله وأمنه واستقراره ورخائه.

ومفتاح التنمية الحقيقية هو التعليم الحديث المتطور باستمرار، لا سيما التعليم الأساسي. وللأسف فإن هذا الموضوع المهم والخطير لم يعطَ الاهتمامَ النوعي الكافي؛ فنظامنا التعليمي لا يتجاوب لا مع فكر جلالة السلطان المعظم، ولا مع مقتضيات التنمية في عمان، فضلا عن مقتضيات العصر. كل ذلك يستدعي القيام بحملة أقرب ما تكون إلى الجهد المقدس لحل هذه المشكلة، التي يبدو أنها استعصت على القائمين بأمره ولأسباب عديدة. وهذا الهدف يجب أن يحتل قمة الأولويات بالتوازي مع متطلبات الأمن والسلامة. كل ذلك يتطلب إصلاحَ النظام التعليمي وبصورة جذرية. وهذا النظام يقود إلى تناقضات غريبة؛ منها: ظاهرة الباحثين عن عمل في بلد يستضيف أكثر من مليون ونصف المليون عامل وافد. وقد ساهم هذا النظام في ظهورهم وفي عدم قدرتهم الحصول على وظائف مجزية وعدم قدرتهم على تطوير أنفسهم ذاتيا، والباحث عن عمل يقع بين رحى ما يُطلب منه وما يأمله وما يمكن أن يقدمه، وكأنه يتمثل في قول الشاعر:

القاه في اليم مكتوفا وقال له.. إيَّاك إيَّاك أن تبتل بالماء

إذا كان الاهتمام بالتوسع الكمي في التعليم خلال عقد السبعينيات والنصف الأول من عقد الثمانينيات من القرن المنصرم، ما يبرره؛ فقد أصبح لِزَاما الآن إجراء مراجعة شاملة وجذرية دقيقة لمحتوى النظام التعليمي بأنواعه وتشعباته المختلفة، وفي كيفية الاستفادة من تجارب الدول الأخرى ومن التقنيات الحديثة، وإعادة النظر في المقررات والإدارات والبيئة المدرسية المستقبلية، وكيفية الإعداد لمعلمي المستقبل، ورفع كفاءة المديرين والمعلمين الحاليين، إضافة إلى رفع كفاءات جميع العاملين في وزارة التربية والتعليم.

وعدم وضوح الأهداف التعليمية، والأهم غياب الخطط والسياسات والإستراتيجيات المناسبة. وانعدام الرقابة على سير العملية التعليمية، وعدم وجود جهة مستقلة، تقوم بالمراقبة والتقويم عن طريق الاعتماد على مقاييس كمية ونوعية، مسؤولة إلى حدٍّ كبير عن الإخفاق الكبير في المسيرة التعليمية. وكانت تلك عملية مُحزنة لبلد يُعاني من نقص كبير ومزمن ومتفاقم في الكفاءات، وفي عدم وجود أعداد كافية من المؤهلين تأهيلا عاليا في قوة العمل الوطنية.

الخطوات الكمية مثل الزيادة في أعداد المدارس والطلاب الملتحقين بالتعليم أو زيادة أعداد المعلمين والإداريين، سهَّل حسابها، ولكنها ليست بالضرورة، تشير إلى تغيير نوعي في إنجازات الطلاب من حيث الاعتماد على النفس والقدرة على مواصلة التعلم، ولا إلى زيادة قدرة المجتمع في التعامل بشكل أفضل مع مشاكل التغيرات المتلاحقة في العالم.

والتحديات التي نواجهها مقارنة مع المسار الحالي للتعليم، تتطلَّب بصورة ملحة إعادة هيكلة التعليم بصورة جذرية، من أجل توفير عدد أكثر من المهارات والمعرفة لدى الطلاب وإعطائهم فرصا واختيارات لتفحص فرص العمل المختلفة؛ سواء تلك المتوفرة حاليا أو تلك التي سوف تتوفر مستقبلا، وفي كيفية بناء جسور بين الحياة المدرسية والحياة العملية.

والتحديات الكبيرة التي نواجهها في عالم متغير، عميقة التأثير ومعقدة ومترابطة؛ بحيث لا نحتاج إلى ما هو أقل من إجراء إصلاحات شاملة وعميقة في أنظمتنا التعليمية والتدريبية. وعكس ذلك فإنَّ السباق بيننا وبين مواجهة التحديات سوف يزداد ضراوة، وهو سباق تزداد حواجزه ارتفاعا كلما تقدمنا في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين.

وإذا كانت قضية التعليم بهذه الأهمية، فإنَّها تصبح عندئذ قضية لا تتعلق بوزارة التربية والتعليم وحدها، وإنما قضية وطنية تشارك فيها كل الجهات المسؤولة ومدعومة بخبرات وطنية ودولية مشهودة. فالسياسة التعليمية لابد أن تكون سياسة وطنية عُليا، لا ترتبط بوزارة معينة، وإنما ترتبط بالمصالح العليا للوطن؛ ذلك أنَّ الاستثمار في التعليم تحكمه اعتبارات خلق كفاءة اقتصادية واجتماعية، وليست الاعتبارات التعلمية التقليديه فحسب.

appleorangeali@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك