الإعلام والسلطة بين التفاهم والاختلاف

عبدالله العليان

لا يزال جَدَل السُّلطة السياسية والإعلام، قضية قائمة وملتبسة، منذ ظهور وسائل الاتصال المختلفة حتى الآن، وهذا الجدل برز مع بروز الحريات العامة، والديمقراطيات في العالم الجديد، وفي الوطن العربي عموما. صحيح أنَّ السلطات هى التي أوجدت هذه الوسائل لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولتنفيذ مصالحها الأخرى لكسب الرأي العام، والدفاع عن توجهاتها السياسة والإستراتيجية عند ظهور النظم السياسية؛ ففي كتابه "السلطة السياسية والإعلام في الوطن العربي"، يرى الدكتور أحمد قراّن الزهراني: أن الصحافة ارتبطت منذ صدورها بالسلطة السياسية ارتباطا وثيقا ومباشرا، وكانت تحكم هذا الارتباط الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما تحكمه قوة السلطة السياسية ونفوذها من جانب، واستقلالية الصحافة وقوتها من جانب آخر. وبالرغم مما شاب هذا الارتباط من شد وجذب، إلا أن السلطة السياسية استخدمت الصحافة كأداة رئيسية في ترويج مشاريعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والوصول إلى الجمهور بكل شرائحه واتجاهاته.

كما تعاملت الصحافة مع النظم السياسية على أنها مصدر مهم للحصول على الأخبار السياسية والاقتصادية التي تتبناها الحكومات؛ سعياً لكسب ثقة القارئ وبالتالي سرعة الانتشار وقوة التأثير في المجتمع. وقد حاولت السلطة السياسية إخضاع الصحافة لها والسيطرة عليها، إلا أن النظم السياسية التي تتبنى الديمقراطية والحرية الإعلامية لم تستطع حكوماتها أن تفرض سيطرتها على الصحافة، بينما استطاعت الحكومات غير الديمقراطية السيطرة على الصحافة وتوجيهها حسب رؤية الحكومة، وفرض إرادة السلطة على الصحافة في عدم الخروج عن المسار الذي رسمته الحكومة؛ وبالتالي التأثير في توجهات القراء وترتيب أولويات القضايا لديهم التي تتبناها الحكومات وتسعى إلى تبنيها من قبل الجمهور.

فالعلاقة الجدلية -كما يقول الزهراني- التي تربط السلطة السياسية والفكرية والاجتماعية بوسائل الإعلام هي علاقة تحكمها المصالح المتبادلة بين هذه الأطراف وبين وسائل الإعلام في الدول الديمقراطية، بينما تحكم تلك العلاقة التوجهات السياسية والفكرية والاجتماعية للدول غير الديمقراطية التي لا تزال تسيطر على وسائل الإعلام بشكل مباشر أو غير مباشر، كما أنَّ الأفكار السياسية -كما يرى- دائما ما ترتبط بالأحداث الاجتماعية وفق سياقات رمانية ومكانية، وانساق اجتماعية واقتصادية؛ حيث لم تتبلور الدولة قديما بالشكل الذي هى عليه حاليا. وقد تبلورت الأفكار السياسية الحديثة وفق متغيرات اقتصادية واجتماعية وسياسية أثرت في مسار الفكر السياسي، وأحدثت تغيرات جوهرية في الحياة العامة والبنى الاجتماعية؛ وبالتالي وصلت فكرة الدولة القديمة إلى ما هى عليه الآن من شكل ومفهوم وتنظيم، فأصبحت الدولة ذات مفهوم سلطوي لا يمكن قيامها من غير سلطة حاكمة تستطيع إدارة الدولة بسط نفوذها على مساحتها الجغرافية بشكل كامل؛ فالعلاقة بين النظامين السياسي والإعلامي -كما يرى الباحث أحمد الزهراني- توصف بأنها علاقة تأثير متبادل، لكن حجم التأثير يختلف بين الطرفين وفق طبيعة العلاقة بينهما ووفق شكل النظام السياسي ودرجة الديمقراطية التي يتمتع بها، ودرجة الحرية السياسية المتاحة للإعلام في معالجة القضايا السياسية والاجتماعية، ودرجة استجابة النظام السياسي لملاحظات وسائل الإعلام وآرائها تجاه القضايا، وتجاه الأداء الحكومي لتلك القضايا؛ حيث تعدٌّ وسائل الإعلام قنوات اتصالية فعالة بين النخب السياسية الحاكمة والرأي العام؛ انطلاقاً من تصورات النخب الحاكمة لمجريات الأحداث وعكسها للرأي العام من خلال وسائل الإعلام، كما تعكس اتجاه الرأي العام بشأن معالجة النظام السياسي للقضايا المختلفة؛ فالأفراد الأكثر وعيًا بالسياسة يتلقون معظم الرسائل وهم على وعي بها وأكثر قدرة على انتقادها وممارسة العملية الانتقائية لأنهم يقيمون هذه الرسائل في ضوء خلفياتهم الأيديولوجية، ولكن في المقابل فإنهم يكونون في حالات أخرى أكثر قابلية للتأثير. أما الأفراد الأقل وعيًا بالسياسة فهم أقل اهتماما بها؛ وبالتالي فهم يتلقون قدراً محدوداً من الرسائل، ويحكمون عليها من خلال خلفياتهم السابقة لأنهم يفتقرون إلى المعلومات ذات السياقات السياسية الآنية؛ فينخفض بالتالي معدل التأثر بوسائل الإعلام، أما بالنسبة للأفراد ذوي المستويات المتوسطة من الوعي السياسي فهم أكثر تأثراً بوسائل الإعلام. وفي خاتمة بحثه في هذا الكتاب، يطرح أحمد الزهراني رؤيته في مسألة السلطة السياسية والإعلام، فيقول: في ظل تحول العام من قرية كونية إلى "أيقونة كونية" يستطيع الإنسان من خلال هذه الإيقونة استحضار العام بضغطة زر في جهاز الحاسوب الآلي أو أجهزة الهواتف النقالة الذكية التي يصطحبها الإنسان في كل مكان، ويستطيع متابعة أخبار العالم أولًا بأول، بل والمشاركة في صناعة الحدث والتفاعل معه. في ظل هذا التحول والانفتاح ووسائل الإعلام الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي والتفاعلي، تتعرض وسائل الإعلام التقليدية لضغوط كبيرة في المحافظة على مكانتها وتأثيرها في الجمهور؛ ذلك أنَّ وسائل الإعلام الجديد تنقل الحدث حالة حدوثه ويتفاعل معه الجمهور بشكل مباشر، بينما تحاول وسائل الإعلام التقليدية مجاراة الإعلام الجديد، لكن الأنظمة والقوانين وتبعية وسائل الإعلام التقليدية للأنظمة الحكومية أو خضوعها لرأس المال والمعلنين، يجعلها تقوم بدور أقل مما تقوم به وسائل الإعلام الحديثة.

ولعلَّ أهم القضايا التي تتحفظ وسائل الإعلام التقليدية -خاصة تلك التي لا تزال تخضع لملكية الدولة، أو تقع تحت إشرافها أو رقابتها- أو تلك الوسائل الإعلامية التي هى جزء من منظومة الدولة المركزية أو الدول غير الديمقراطية، عن مشاركة الجمهور والتفاعل معه في القضايا السياسية، لأن المتحكم في هذه القضايا هو الدولة والتي لا تسمح للشعب بالمشاركة السياسية فيها؛ وهى بالتالي تسعى لتركيز انتباه الجمهور نحو الاهتمام بموضوعات وأحداث وقضايا معيّنة حسب توجه حكومي؛ مما يؤدي إلى اهتمام الجمهور بهذه القضايا، ومحاولة ترتيب رسالة معينة من بين رسائل ومضامين مختلفة؛ لهذا فإنَّ وسائل الإعلام التقليدية، خاصة الصحافة، وفي ظل المنافسة الكبيرة من وسائل الجديدة تتعرض لضغوط كبيرة للمحافظة على مكانتها وعدم فقدها للجمهور.

تعليق عبر الفيس بوك