الاستفادة من الآخرين

سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟ (26)

د. صالح الفهدي

في العام 2013، عيَّنتْ بريطانيا محافظ البنك المركزي الكندي مارك كارني مسؤولا عن إدارة السياسات النقدية ومراقبة القطاع المصرفي لمدة خمس سنوات؛ نظراً لنَيْله إشادة عالمية في مواجهة الأزمة المالية العالمية بفضل قراراته السريعة والجريئة للحدِّ من الآثار الاقتصادية التي تعرَّضت لها كندا، وسريعاً ظهر ذلك في تعافي الاقتصاد وتحقيق النمو وعودة التوظيف إلى مستواه قبل الأزمة.

يقفُ المرءُ أمام هذه الخطوة التي اتَّخذها وزيرُ المالية البريطاني أوزبورن، ولم يجد البرلمان حججاً مقنعة للاعتراض عليها، يقف فيسأل: ما الذي حَدَا ببريطانيا العظمى -وهي تملك من الكفاءات ذات الخبرات الكبيرة- أن تستعين بخبير كندي ليرأس البنك المركزي البريطاني فيكون الأكثر نفوذا في بريطانيا في قيادة اقتصادها، واتخاذ القرارات التي يراها مناسبة لواحدة من أعظم بلدان العالم من أجل اقتصاد يتنامى بصورة مضطردة؟! لا شكَّ أنَّ الخروجَ من التقليد هو ما يجب أن تفعله كل دولة تطمح إلى النماء والازدهار والتطور؛ إذ يعتبر كارني أول محافظ أجنبي يرأس البنك المركزي البريطاني منذ 319 عاما!

هذا يَدْفعنا للتساؤل: لِمَ لا نستفيد نحن أيضاً من الخبرات العالمية في مجالات الاقتصاد أو السياحة أو المشاريع التنموية أو غيرها من المجالات ذات الفعالية والتأثير على مستقبل أوطاننا؟! أم أننا نتمسك بالاستمرار في كل شأن وإن كنا لا نملك فيه الخبرة الكافية والكفاءة الملائمة؟! هذا سؤال علينا أن نفكر فيه مليًّا قبل الاندفاع في الإجابة غير المتعقلة عنه.

لقد تغيَّرت المعايير وأصبحت الكفاءة أيًّا كان منشؤها أو جنسها هي الفيصل في الانتقاء حتى ظهر مصطلح "اقتناص الرؤوس Head Hunting" الذي يعني التنافس على جذب الكفاءات الملائمة أينما تكون وبأي ثمن. إن بعض الجوانب تحتاج إلى الخبرات العالمية الحذقة التي تستطيع أن تتعاطى مع شؤونها لسعة علاقاتها، وتراكم خبراتها؛ لهذا فإنَّ إبقاءَ هذه الجوانب تحت إدارة لا تتمتع بالكفاءة بحجة التوطين لا يخدم التنمية الشاملة في الوطن، خاصة في بعض القطاعات التي تُشكِّل رافداً اقتصاديًّا واعداً كالصناعة والبنوك والسياحة والتجارة والتعدين والنفط والطاقة والتخطيط...وغيرها؛ لهذا فإن أهمية تقييم السياسات العامة وطرق الأداء في القطاعات التي يعول عليها الوطن أصبح أمراً لا مناص منه.

أمَّا الاستفادة من تجارب الآخرين، فتلك قيمة من القيم التي غدت أساسية في معيار البناء والتطوير في سائر الأوطان، وما نفع بلدان مثل سنغافورة وماليزيا وغيرها إلا استفادتها من تجارب الآخرين. يقول كيشور محبوباني وهو دبلوماسي سنغافوري سابق: "قال لي الدكتور جو كينج سوي لا يهم ما هي المشكلة التي تواجهها سنغافورة، هناك أحد ما، في مكان ما قد أوجد حلاً لهذه المشكلة. لنقم بتطبيق هذا الحل على سنغافورة"، ويعقب قائلا: إنَّ نسخ أفضل الحلول أمر كل دولة تستطيع فعله، ولكن الإخلاص هو الذي يصعب تطبيقه.

... إنَّ ما ساعد الكثيرَ من الدول في تقدمها ونمائها هو استفادتها من تجارب الآخرين التي لم تكن تحتاج إلا إلى الإرادة والإخلاص، مع التأكيد هنا على أنَّ نجاح التجربة مقيَّد بعوامل متعددة، ولا يمكن نسخ تجربة من وطن لآخر كما تنقل الشجرة من أرض لأخرى؛ فعوامل الطقس والتربة والعناية وغيرها من المؤثرات جميعها عوامل تسهم في نجاح التجربة أو فشلها..!

ما تحتاجه الأوطان في بدايات نهضتها وبنائها هو القيادات الصالحة ذات العقليات العلمية، والذهنيات المتوقدة، المنفتحة على التجارب، والإرادات الفذة، والطموحات العالية، هذا هو أساس البناء والنهضة؛ فالذي أبقى الكثير من دول العالم الثالث في تخلف، وتأخر، وفوضى تاريخية هو الفساد؛ حيث تتبوأ القيادات الفاسدة مراكز السلطة في هذه البلدان لخدمة مصالحهم، أما الوطن وشعبه فهم في طائلة الفقر يتكفوفون أدنى وسائل العيش للبقاء أحياء، في حين تحيا الطغمة الفاسدة في رفاهية غامرة!

إنَّ المسافرَ منا ليشاهد كيف وظفت الدول قدراتها وإمكانياتها ومواردها لخدمة أوطانها، فيسأل: ألا نستطيع نحن أن نفعل مثل هذا؟ ما الذي يمنعنا أن نفعل ما هو أفضل لخدمة قطاع السياحة وبلادنا تمتلك طبيعةً نتغنى بجمالها وتنوعها كل يوم؟! وما الذي يمنعنا من الاستفادة من أبجديات يسيرة لتشكل بالنسبة للدخل القومي عائداً كبيراً!! وما هي الاستفادة التي نراها ماثلة في القطاع السياحي؟ وما هي المرافق التي يُمكن للمرء أن يشهد على روعتها وإبداعاتها في استفادتها من العوامل الطبيعية؟! لقد كتبتُ كثيراً في الماضي عن السفينة "صحار" وعبَّرتُ عن حزني أمام مسؤولين عن وجودها منذ خمس وثلاثين عاماً في دوار قصر البستان تلهبها الشمس بأسياطها!! لقد ناديتُ بأن توضع هذه السفينة التي مخرت البحار إلى ميناء كانتون بالصين عام 1980 في متحف بحري يجسد تاريخ عمان البحري ولكن ليس من مجيب! لكن أنظر في المقابل أين وَضَعت سنغافورة السفينة "جوهرة مسقط" التي أهدتها لها عمان بعد أن انطلقت في 2010 من ميناء السلطان قابوس عبر بحر عمان وبحر العرب وخليج البنغال ومضيق ملقا، سالكة الطريق الذي سلكه العمانيون القدامى منذ 1200 عام مهتدية بالنجوم تماماً كما هو العُرف في الماضي حتى ألقت مرساتها في ميناء "كيبيل بيه" بسنغافورة، ثم لتستقر في متحف بحري شيد خصيصاً لها!! هذه ستشكل مصدر دخل لدولة سنغافورة. أما السفينة صحار الراسية في الدوار فتأكلها الرمة حتى تتقضقض عوارضها، وتخر ساريتها التي لها قصة مجيدة لو رآها أصحابها في الهند على حالتها هذه لقضوا حزناً عليها!

لقد أصبحتْ الاستفادة من الكفاءات العالمية والدول الأخرى أمراً جديراً بالعناية والاهتمام؛ إذ لا يمكن لدولة ما أن تعزل نفسها بحجة أنها تملك الحل لمشكلاتها، أو طرق الاستفادة من مواردها لأن الاستفادة من الآخرين يختصر الطريق أمامها ويرفدها بالحلول الحديثة التي توصل إليها غيرها. يقول (Andreas Schleicher) مستشار الأمين العام لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD): "إنَّ البيانات التي تجمعها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يمكنها أن تساعد الدول على التعرف إلى مواضع القوة والضعف في التعليم. لكن ما هو الطريق الأفضل لمعالجة المشكلات؟ بدلاً من الإجراءات المقترحة، فإن المنظمة تفضِّل أن تقدم لصناع القرار صورة عامة لما يفعله الآخرون وإلى أي مدى نجحت مبادراتهم".

ليس من العيب أن تستفيد الدول من كفاءات ذات قدرات مشهودة في مجالات مهمة، بل إنَّ ذلك يُعدُّ من الفضائل، ومعلوم أن المسلمين الأوائل لم يستنكفوا عن الاستفادة من غير المسلمين في إدارة شؤون الدولة، يقول أ.د. أحمد بن عمر الزيلعي: "وحفظ لنا التاريخ الإسلامي الموثوق أن خلفاء بني أمية، وخلفاء بني العباس، ومنهم صحابي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكاتب الوحي معاوية -رضي الله عنه- وصفوة من الخلفاء التابعين، وتابعي التابعين من أهل القرون الثلاثة الأولى المفضلين علينا بنصِّ حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم، نجد أنَّ كثيراً من هؤلاء الخلفاء قد استعانوا على نطاق واسع بأهل الكتاب، وبلغ من سماحة الإسلام أن بعض هؤلاء الكتابيين بل والصابئة، وهم وثنيون، من تقلد بعض مناصب الدولة العليا، ومرافقها المهمة، ومنهم من أُنيطت به مسؤوليات محددة في دار ضرب العملات الإسلامية".

علينا أن نتوسَّع في نظرتنا نحو الكفاءات والتجارب للاستفادة القصوى، وأنْ لا نتحيَّز إلى أمر ليس فيه منفعة تخدمنا! لقد تقهقر الأداء في بعض المؤسسات لأن من وضع على رأسها لا يملكون الكفاءة المناسبة، ولو أن أجنبياً وضع على رأسها يتمتع بكفاءة عالية لكان خيراً لها.. كما أننا شهدنا في فترة من الفترات حين صدرت قرارات بعدم التجديد للوافدين كيف أقفرت الأسواق، وخلت البنايات السكنية، وأصبح البحث عن العامل أشبه بالدرة في الأصداف!! هذا هو عالم اليوم، عالم انتقال المعرفة الذي علينا أن نرفع إليه أبصارنا لنستفيد من كفاءاته التي تجوب البحار والأجواء بحسب المغريات التي تقدم لها، ونستنفع من تجاربه الناجحة التي بوأت بعض دوله المصاف العليا من التقدم والازدهار.

تعليق عبر الفيس بوك