الصَّدمة الثقافيَّة العكسيَّة

أسماء القطيبي

في المقال السابق تحدَّثتُ عن الصدمة الثقافية التي تُصيب المغترب خلال فترة إقامته في بلد أجنبي، وبالتحديد المراحل الشعورية التي يمرُّ بها، والتي تتمايز بين الدهشة والإحباط والتقبل طوال مدة الإقامة.. واستكمالا للموضوع، سأتحدث في هذا المقال عن الصدمة الثقافية العكسية، وهي تلك الصدمة التي يشعر بها الشخص عند العودة لوطنه بعد مدة طويلة من الإقامة في بلد آخر. والناتجة عن الفروقات التي يلمسها الشخص جراء تعامله مع ثقافتين مختلفتين، وهي حالة لا تقل حدة وارتباكا عن تلك التي يعانيها الفرد خلال اغترابه.

قبل مدة، التقيت إحدى الصديقات التي كانت قد ابتُعثت لمدة خمس سنوات للدراسة في بلد غربي، وعلى عكس ما هو متوقع فقد بدت غير مسرورة بعودتها، حدثتني عن شعورها بالإحباط من كل شيء، بدءا بقلة الفرص الوظيفية في البلد، وليس انتهاء بالقيود المجتمعية التي تعيها ولا تعي مبرراتها. صديقتي التي تحدَّثت عن الوطن أمام كل غريب بافتخار تقول الآن إنها مضطرة لتجميل نفسها بقناع لا يشبهها من أجل التأقلم مع الوضع.

اختلاف مفاهيم الحرية بين البلدين من أبرز التحديات التي تواجه المغترب العائد إلى الوطن؛ فالاستقلالية في اتخاذ القرارات مثلا -والذي كان قد اعتاد عليه خلال فترة اغترابه- تصطدم بتدخلات من العائلة والمجتمع. وهذا يُشعره بالتهديد وبأن الآخرين ينتهكون خصوصيته، بينما يرى الأفراد الذين لم يعيشوا في مجتمعات أخرى، ولم يجربوا التعامل مع ثقافات مختلفة بأن الأمر طبيعي، وأن هذا التدخل حق مشروع للآخرين باسم المساندة والحماية. وفي حال قرر الشخص الاعتراض، فإنه سيُتَّهم بالتمرد والجحود، والتنكر على عادات مجتمعه؛ لذا فإنه يجد نفسه مخيَّراً بين أن ينتصر لما يريد ولما اعتاد عليه، وهذا ما قد يخلق صراعا بينه وبين أبناء مجتمعه، أو أن يقدم بعض التنازلات من أجل التأقلم مع المجتمع.

وهنا يتبادر إلى ذهني السؤال التالي: هل تصح المقارنة بين بيئتين مختلفتين علميا واقتصاديا واجتماعيا؟ مع العلم المسبق بأنَّ الكفة التي سترجح ليست كفة الوطن. من رأيي أن الشخص الذي يعقد هذه المقارنات الخاسرة لا يتعمَّد ذلك، بل إنَّ المقارنات تتوالد في ذهنه تلقائيا، مثلما كانت تفعل في بداية انتقاله إلى بلد غريب قبل الاعتياد على الوضع هناك. هذه المقارنات مؤذية نفسيًّا؛ لأنها تجعل من العودة للوطن -الحلم المنتظر- خيبة أمل كبيرة. وإن لم تقابل بكثير من التفهم، وبعض التفاؤل فإنها ستستفحل حتى تحطم صاحبها.

محاولة التأقلم مع المجتمع من جديد بعد غياب طويل تحتاج إلى جهد كبير. وفي المقام الأول تحتاج إلى بعض التواضع؛ فالوطن سيبقى أولا وأخيرا هو الملاذ لأفراده، ومهما بدت ثوبه مرقعه فإنها الأجمل والأقرب للنفس. ولعل العائد إلى الوطن بقراءته تاريخ البلاد من جديد، وبحثه عن أصول العادات والتقاليد وتصرفات الأفراد سيصل إلى فهم أفضل للوضع القائم، وسيتواصل مع المجتمع على أساس هذا الفهم.

قلت لصديقتي المحبطة إنَّ الوضع أبدا لن يكون مثلما عاشته في ذلك البلد الغربي؛ فالتغيير للأفضل -على الأقل في مستوى القوانين والأنظمة- يحتاج إلى سنوات طويلة، وأن ليس عليها إلا أن تبحث عن الجوانب المشرقة في هذا الوطن من أفراد مبدعين، وتجارب رائدة، وقيم نبيلة عند أفراد المجتمع لتشعل الأمل الذي بدأ يخبو في نفسها. وأن ما تشعر به من غضب وحنق ليس إلا هم الوطن الذي كانت قد حملته وهي ذاهبة للدراسة في بلد لا تعرف عنه شيئا سوى أنه سيمنحها المعرفة العلمية التي تعود بها للوطن، وإذا بها تكتسب معارف أخرى -ثقافية واجتماعية- لم تكن في الحسبان، طمأنتها أن كل هذه الانفعالات المضطربة التي تمر بها مشاعر طبيعية وصدمة متوقعة ستقل حدتها بمرور الأيام لتتخذ طابعا أكثر عقلانية واتزانا.... وبأمثالها يحدث التغيير.

asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك