تاريخ الفأر

أحمد الرحبي

إذا ما استعصى على شخص أمر من الأمور في شؤون الحياة والمعاش، واستنفد كل طاقته في معالجة هذا الأمر أو استنباط الحل له، من الطبيعي أن يلجأ بعد ذلك إلى تحري تجارب الآخرين حول هذا الأمر، والاستعانة بها لتجاوز هذا الاستعصاء والخروج بحل عملي يكون قد ثبتت مسبقاً نجاعته من خلال التجربة التي هي خير برهان لهذا الأمر، فالحديث عن التجربة كمنجز إنساني والفرص الكبيرة المتاحة للإفادة منها واستثمارها في مسيرة التطور للجنس البشري، هو إجمالاً ما يشكل تاريخ الحضارة الإنسانية على هذا الكوكب بداية من الاكتشافات الأولى في مسيرة الارتقاء التي حققتها الإنسانية منذ الإنسان الأول، وذلك من واقع حاجاته الضرورية الماسة لتحسين معيشته وجعلها أقل مشقة.

لكن هذه التجارب التي واجهها الإنسان طوال مسيرته الحضارية، والاستنباطات والاكتشافات التي تحققت من خلالها، ما كانت قد تثمر وتتحقق لها هذه الأهمية والفائدة، لولا تميز هذا الإنسان وامتلاكه كخاصية له وحده من دون كائنات الأرض الأخرى، ما يمكن تسميته بالوعاء الحافظ لهذه التجارب: الذاكرة، فبواسطة الذاكرة التي خص بها أمكن له المحافظة على هذه التجارب واستعادتها وقت الحاجة إليها، كما أن المحافظة عليها مكن له مراكمة تجاربه في خط تطوري صاعد، دائما وهذا بالتالي حقق له ميزة ينفرد بها وحده من دون كائنات الأرض كافة، وهو كونه أصبح بفضل ذاكرته وما ينتج عنها من تراكم متسق تجاربا وأحداثا، كائنا تاريخيا، ولذلك يمكن القول إن وعيه للزمن لم يعد وعياً دائرياً ينتهي في نفس النقطة التي يبدأ منها، إنما الزمن أصبح لديه امتداد بين ماض يسكن الذاكرة بتجاربه ومستقبل مأمول به ومنشود من على شرفة الحاضر الذي هو راهن بمقدار استغراقه في الوقت لمشارفة المستقبل، من ثم ينكفئ ماضيا كي يسكن في أضابير الذاكرة.

وحول التاريخ كظاهرة إنسانية يختص بها أو ينتج مادتها البشر، يشكل الفأر وتجربته الفاشلة في كل مرة في اتقاء الوقوع في المصيدة، مثالا ملائما يبرهن على تعذر أن يكون الفأر كائناً تاريخياً مقارنة بالبشر، يعود بالدرجة الأكبر إلى انتفاء حدوث التراكم للتجارب السابقة، التي في كل مرة همّ فيها الفأر لالتهام قطعة الجبن (الطعم) وقع في المصيدة وهكذا بشكل متكرر ومتواصل، بما يعني عدم الاستطاعة وعدم القدرة في الإفادة أو حتى الاتعاظ من التجارب السابقة أو وضعها في الحسبان بالمرة.

هكذا فإن الخبرات البشرية وتراكمها في الذاكرة والإفادة والاغتراف منها في سبيل تنمية المشروع الحضاري الإنساني وتطوره، هي التعريف الحقيقي للتاريخ، لا تاريخ السيف والحروب (مع الاعتذار لأبي تمام) ، ولا تاريخ المؤامرات وحياكة الدسائس السياسية في أروقة القصور.

بقي القول أن العرب ومنذ فترة اضمحلالهم الحضاري وانقطاعهم عن المساهمة بدورهم الفاعل السابق الذي كان لهم في الحضارة العالمية وحتى اليوم، هم بعيدون كل البعد عن مبدأ مراكمة الخبرة المعاشة في حياتهم، والإفادة منها، فتاريخهم خلال هذه المدة الطويلة قد كتب بمعزل عن الخبرة ومراكمتها، تاريخ أبسط ما يوصف به أنه تاريخ عقل دائري مغلق يدور حول نفس النقطة ذاتها، حسبما وصف المفكر المغربي محمد عابد الجابري العقل العربي، فما أشبهنا بالفأر وما أشبه الفأر بنا في ذلك.

***

إن طرح الأسئلة هي مهمة ليست بتلك السهولة التي نتصورها أبدا، فالسؤال دائما ينم عن قلق حقيقي وصادق في النفس، قلق لا يستقر له قرار، لا يمكن مهادنته أو تسويفه أو خداعه باعتناق القناعات الجاهزة المعلبة، كما لا يمكن لجم الأسئلة مهما بدت ساذجة ولا منطقية في طرحها، فالسؤال هو البياض أو الحالة السديمية التي تسبق الأفكار أو هو الرحم الذي تنبثق منه الفكرة، فهو سابق لكل الإجابات والخلاصات التي تحاول أن تكونها هذه الإجابات وجعلها موثوقة ومضمونة بحيث تغني عن مبدأ اجتراح السؤال أو ارتكاب هذا الإثم في حقها ،هي الخلاصات المصونة المصانة من تعديات الأسئلة والتسفيه الذي ترمي إليه في حق هكذا خلاصات لا يداخلها الباطل لا من خلفها ولا من بين أيديها، فيتم بذلك نهر ألف سؤال وسؤال وإسكاته لأن خلاصة أو فكرة من تلك الخلاصات والأفكار الشديدة الثقة بنفسها المتهندمة بأكثر من منطق مقنع وحجة لا تغلب، تغط في نومها واستكانتها اللذيذين، فأي سؤال في حالتها هو كسر لحالة السكونية والهدوء وضوضاء مزعجة لا تحتمل، فسرعان ما يلجم أي سؤال بحجر لأن هناك خلاصة أو فكرة مستكينة ونائمة لا تريد أن تزعج، فأي كلب مسعور هو السؤال يظل يهر وينبح في وجه طريدته محاصرا لها بنباحه المسعور حتى ترتعد فرائصها وتنهار مستسلمة من الخوف والرعب الذي يوحي به سؤال مسعور في وجه خلاصة استقر في قرارها بأنها هي تمثل أم الخلاصات جميعا.

***

هل يمكن أن يكون السؤال قلة ذوق وإزعاجًا لا تحتمله طبلة الأذن أو يشكل ضوضاء مزعجة لها؟.. لماذا اعتدنا على كره الأسئلة وأن نضيق ذرعا بكل من يلح بسؤال في وجهنا أو يلج به في أية مسألة أو قضية اشكالية من أجل إجابة شافية وافية عنها؟.. لماذا نحابي الإجابة في معاملتنا ونحفظ ودها ونقربها بينما نتأفف من ابن عمها السؤال ونتطير منه كلما حضر؟.. لماذا تميد بنا الأرض كلما طرح علينا سؤال ونفقد توازننا ونقع مغشيين على وجوهنا؟.. لماذا كل الزلازل والبراكين والطوفانات والأعاصير، وكل ضروب الخسف والتدمير تبدأ لدينا من مجرد سؤال يطرح؟.. لماذا دائما نعتبر السؤال بأنه قفاز يقذف في وجوهنا؟.. لماذا ننظر للسؤال على أنه غراب ينعق بالبين وبالفرقة والعزلة والفتنة؟.

***

السؤال هو إذا ذلك الفوضوي، الانقلابي، الخارجي، الصابئ، المعتزلي، الذي يخرج دائما عن الإجماع وينقلب عليه بدون حجة أو منطق سوى حجة ومنطق الاختلاف الذي يفسد الود في ألف قضية ويعرضها لمهب رياح التغيير والمراجعة لمسلماتها التي تتيه بها فخرا، يدك أساساتها ويضعضع أحجار الزاوية فيها، يهدم المعبد على رؤوس ساكنيه.

***

الأطفال هم أكثر من يعاقرون الأسئلة، لمحاصرتهم أوجدنا التربية مدخلا أو وسيلة لإملاء قناعاتنا المسبقة عليهم وإجهاض مبادرات التساؤل الذكية لديهم في مهدها.

تعليق عبر الفيس بوك