الصدمة الثقافيَّة

أسماء القطيبي

قد يضطر الإنسان -لظروف العمل أو الدراسة، أو لتردي الأوضاع الأمنية في بلاده- إلى المكوث في بلاد أخرى لفترة طويلة، غالبا ما تكون هذه البلاد تملك ثقافة مختلفة تماما عن تلك التي نشأ عليها؛ فبداية باللغة مرورا بالدين وليس انتهاءً بالعادات والتقاليد، يجد الشخص أنه أمام تحد كبير يتمثل في كيفية التعامل مع كل هذه الاختلافات. ومن الطبيعي أن تنتاب المغترب المخاوف والمشاعر المضطربة لدى تعامله مع المحيط الجديد أو الثقافة المغايرة، أي أن يصاب بما يسمى "الصدمة الثقافية". وهو مصطلح حديث استخدمه لأول مرة العالم الأمريكي أوبيرج عام 1954. ويقسم المختصون الصدمة الثقافية إلى ثلاث مراحل أساسية؛ هي: مرحلة الانبهار، ومرحلة المفاوضات، ومرحلة التمكن.

وفي بداية انتقال المغترب إلى بلد آخر يبدو كل شيء مبهرا وجميلا؛ فالطبيعة والطقس المختلفان عمَّا تعوَّد عليه يُشعرانه بالسعادة، كما أنَّ الحديث مع الآخرين يصبح مثيرا للاهتمام؛ حيث من خلاله يتعرف على أسلوب الحياة وطبيعة الناس. لذا تجده يلتقط العديد من الصور للمباني والطعام والأسواق لمشاركتها مع الأهل والأصدقاء ونشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي ويعلق عليها بحماس كبير. يسمي المختصون هذه المرحلة بـ"شهر العسل"؛ كون المغترب لا يستطيع فيها إلا رؤية الجانب الجميل من البلد الآخر.

بعد فترة من الزمن -وحين ينخرط المغترب في أجواء الدراسة أو العمل- يبدأ النظر إلى الحياة الجديدة بعين المقيم لا السائح؛ فالمكان وأسلوب العيش أصبحا مألوفيْن لا يثيران الاهتمام. وهنا تبدأ الفروقات والسلبيات في الظهور، ويجد المغترب نفسه مضطرا إلى التعامل مع كم كبير من الأنظمة الجديدة التي قد لا تناسبه. كما يغلب أن يصاب المغترب في هذه الفترة بالشعور بالإرهاق من التحدث بلغة أخرى، والتعامل مع الأشخاص الجدد واتباع توقيت زمني جديد. وتبعا لذلك يطغى الحنين للوطن على مشاعر المغترب، وفي هذه المرحلة بالذات يقرِّر بعضُ المغتربين التراجع عن مخططاتهم والعودة للديار.

تأتي مرحلة التمكن -وهي المرحلة الثالثة- بعد مرور ستة أشهر أو أكثر من إقامة المغترب في البلاد الأخرى. وهي فترة الاستقرار النفسي والعاطفي للمغترب؛ حيث يكون الشخص قد مر بكم كبير من الموقف، واختبر الكثير من الأمور؛ وبالتالي اكتسب خبرة تمكنه من التأقلم والعيش في تلك البلاد. وقد يتطوَّر الأمر عند البعض لدرجة الاندماج في الثقافة الجديدة والتفاعل معها. وغالبا من يصل إلى مرحلة الاندماج هم الأشخاص الذين يقررون الاستقرار في تلك البلاد وعدم العودة للوطن.

ليس شرطا أن يمر المغترب بجميع هذه المراحل على هذا الترتيب، كما أن مروره بمرحلة ما لا يعني تجاوزها؛ فالأمر يتوقف على الشخص ومدى تقبله للتغيير، وعلى أنظمة البلاد التي يسافر إليها وأمور أخرى كثيرة، ولكن فهم المغترب أن ما يمر به من انفعالات ومخاوف أمر طبيعي يسهل عليه التعايش مع كل مرحلة؛ لذا من المفيد للمغترب في بداية وجوده في تلك البلاد أن يحضر التجمعات التي يقيمها المغتربون، وأن يتحدث معهم حول مخاوفه والصعوبات التي تواجهه، ليشاركوه تجاربهم وكيفية تغلبهم على التحديات. كما أنه من المهم أن يتشارك معهم في الاحتفال بالمناسبات الاجتماعية كالأعياد والمناسبات الوطنية المختلفة؛ لأنَّ هذه المناسبات -إذا عاشها المرء وحيدا- تزيد من شعور الحنين للوطن.

وفي عصر الإنترنت والفضاء المفتوح، صار بإمكان الشخص الذي ينوي الإقامة في بلاد أخرى لفترة طويلة أن يتسلح بما يحتاجه من معارف قبل السفر عن طريق الإنترنت، بل وعن طريق مواقع التواصل الاجتماعي بإمكانه التعرف على أشخاص من تلك البلاد سواء كانوا مواطنين أو مقيمين للاستزادة. وهو ما يساهم في التهيُّؤ النفسي للمغترب ويساعد على تقليل حدة الصدمة الثقافية التي سيمر بها، لينعم بإقامة مريحه يحقق فيها الهدف الذي سافر من أجله.

وفي المقال القادم -إن شاء الله- سأتناول الصدمة الثقافية العكسية، وهي الصدمة التي تصيب المغترب بعد عودته إلى وطنه، مستعرضه مظاهرها وأسباب حدوثها وكيفية التعامل معها.

asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك