مشاعر عابرة للقارات

علي المعشني

(1)

جزر المالديف، أرخبيل من الجزر يبلغ تعدادها 1120 جزيرة متفاوتة المساحات، تقع في المحيط الهندي، وتعيش على السياحة، سُكَّانها من المسلمين من أصول هندية وعربية ومزيج من عرقيات أخرى.

أغلب تلك الجزر تقع بمستوى سطح البحر، وأكثرها ارتفاعًا عنه تبلغ مترين فقط، يقول علماء الطبيعة (قبل أكثر من عشرة أعوام) بأنَّ هذه الجزر مهددة بالاختفاء عن سطح الأرض بفعل التقلبات المناخية والاحتباس الحراري خلال زمن لا يتجاوز الخمسين عامًا. الغريب والمؤلم في آن أنَّ سكان المالديف جميعهم يعلمون بهذه الحقيقة ويعيشون تفاصيلها عامًا بعام، دون مقدرة منهم أو حيلة لهم لمنع اختفاء وطنهم عن ظهر اليابسة، وحين تسأل أحدهم عن حقيقة هذه التوقعات المناخية يُجاوبك بهز رأسه إيجابًا ودمعة حارقة على وجنتيه. فهل عشتم مرارة احتضار وطن وموته سريريًا أمام أعين أبنائه دون حول ولا قوة؟!

(2)

إنريكو ماسياس، مُطرب وشاعر وملحِّن وموسيقي فرنسي الجنسية يهودي الديانة، وُلد ونشأ في مدينة قسنطينة أكبر مدن الشرق الجزائري، وغادرها مع الآلاف من أبناء جلدته وجنسيته صبيحة الإستقلال في 5 يوليو 1962م، وكان في السادسة عشرة من عمره. غادر ماسياس قسنطينة ولكنها لم تغادره لغاية اليوم، في تجل واضح لمقولة "أسوأ رحيل: من يرحل عنك ولايرحل منك".

تغزَّل ماسياس بقسنطينة وألهمته ذكريات طفولته وحواريها وأصدقاء صباه، وتغنى بها كمعشوقة أبدية ووحيدة، عشق جمال روحها لا جمال وجهها؛ فأصبحت فاتنته الوحيدة التي تربعت على عرش قلبه، واستحوذت على كلِّ مساحاته. طلب مرارًا من السلطات الجزائرية السماح له بزيارة مسقط رأسه وعشقه الأبدي قسنطينة وبشروطهم، فلم يفلح، منذ عهد الرئيس هواري أبومدين ولغاية اليوم، وفي لحظة يأس طلب منهم السماح لطائرته الخاصة بالتحليق في سماء قسنطينة فقط، فرفض طلبه كذلك. فما كان من إنريكو إلا أن ذهب لمدينة ميرسيليا الفرنسية الساحلية ليخاطب البحر الأبيض ويغبطه لأنه يغسل أقدام قسنطينة كل يوم ويلاقيها وقتما شاء دون منع أو محاذير. وتغنَّى بهذه الأغنية المعبرة عن كل شحنات العاطفة لديه تجاه حبه الأول والأخير قسنطينة.

إنريكو ماسياس شاعر ومطرب فرنسا الأول والدول الفرانكوفونية كذلك، نال العديد من الجوائز والأوسمة والنياشين من فرنسا وخارجها، فنان متعدد المواهب وغزير المشاعر ومتدفق العطاء، تغنى بالفرنسية والعربية الجزائرية، بآلة العود والمندول، وبالآلات الموسيقية الغربية الحديثة.

(3)

تزوَّج من امراة فائقة الجمال بعد حُبٍّ عاصف وعنيف بينهما، يعيشان حياة مثالية مليئة بالسعادة والتقدير والحب والاحترام المتبادل، بعد سنوات تصاب الزوجة بمرض جلدي نادر في وجهها أتى على كل جمالها وأصبحت تتوارى حتى عن زوجها خجلًا، ورغم هذا بقي وفيًّا لها، وذات يوم يتعرض الزوج لحادث سير أفقده بصره وبقيت العشرة مثالية بينهما. بعد مضي أعوام تتوفى الزوجة فيقوم الزوج بتشييعها ودفنها، وحين هم أحدهم بتوصيله للمنزل كعادته، كانت المعجزة، حين قال له: أنا لست كفيفا، بل ادَّعيت ذلك، وتمثلت به طوال تلك السنين حفاظًا على مشاعر زوجتي فقط!

(4)

مؤيد.. شابٌ عراقيٌّ من سكان الموصل، تتلمذ في صباه على يد معلمة فاضلة من الطائفة المسيحية الآشورية في السبعينيات من القرن المنصرم، كانت تداعبه بالسؤال المتكرر: ما اسمك يا بُني؟ فيرد الطفل: أنا مؤيد يا معلمتي، فتقول له: أنت مُحمَّد ولست مؤيد، فيصمت الطفل احترامًا لمعلمته.

وذات يوم ولكثرة تكرارها له وإلحاحها عليه، سألها: معلمتي، لماذا تصرين على تسميتي بـ"محمد" رغم أن اسمي مؤيد كما تعرفين؟! فقالت له: كن محمد يا بني، فإنْ كنت محمدًا فلن تكره أحدًا وستحب كل البشر من حولك وتحترمهم.

صَمَت الطفل ولم يفهم معنى ومغزى ودلالة معلمته، وكبر مؤيد وتنقل في مراحل دراسية مختلفة، حتى أتى زمن احتلال العراق والتنكيل به واستباحة مكوناته والقتل على الهوية، فعلم معنى ودلالة ومغزى أن يكون محمدا. تفقد مؤيد في الموصل عن معلمته الفاضلة، فعلم أنها هاجرت قسرًا للسويد مع عائلتها، لأنها أحيطت بكل مظاهرالكراهية والقتل والتهجير، ولم تجد محمدًا واحدًا من حولها يحبها ويؤازها ويحميها، بعد أن تمزق العراق وأصبح التآخي والتعايش في كتب التراث فقط.

قبل اللقاء: الحنين: هو اشتياق لقطعة من روحك توجد في مكان آخر... وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك