الحداثة وما بعدها: عالميَّة التقدم أم كونيَّة الهدم؟!

عبدالله العلوي

إنَّ إصرارَ الدكتور عبدالله ولد أباه في مقاله "الحداثة والكونية: جدل الخصوصية والعالمية في المقاربة التحديثية" لإثبات أنَّ الحداثة لا يُمكن أن نُدرجها ضمن قائمة الأدبيات فقط، فهناك حداثة في السياسة، وحداثة في الاقتصاد، وحداثة في الفلسفة، وحداثة في العلوم، وحداثة في التاريخ، وحداثة في كلِّ شؤون الحياة العلمية والعملية، فلا يمكن أن نظلم المفهوم بحجة المعنى الظاهر؛ فينغلق المفهوم على نفسه.. كلُّ ذلك يجعلنا نقول بأنَّ المفاهيم ما عادتْ مُستقلة باتجاه أو معنى واحد فقط، وإنما لها مُتسع، ولها القدرة على التحرُّك وفقَ المعطيات التي يعيشها المفهوم.

أصبح التطرُّق والحديث عن الحداثة من الأمور التي بات الحديث عنها فضفاضا، بل وتُعد أسطوانة من الواجب رميها؛ لأنه موضوع مستهلك تناوله الكثير من المفكرين، وأظنُّ أنَّ مرحلة الحداثة قد تمَّ تخطيها من فترة طويلة جدًّا في العالم أجمع، وطغتْ مرحلة ما بعد الحداثة على المجتمعات الدولية عامة، ويبدو أنَّ الخوف السابق من الحداثة في عصور متقدمة في الوطن العربي والإسلامي أدَّى لتراكم هذا الخوف، فأصبح المجتمع الشرقي يخاف من كل ما يأتي من الغرب؛ لأنه يعتبره منافيا للقيم المجتمعية والدينية والثقافية العربية والإسلامية؛ لذا فإنَّ الحداثيين لاقوا هجومًا قويًّا من قِبل الأصوليين والقدماء الذين وضعوا أنفسهم حرّاسا على المجتمعات.

ويقول الدكتور أباه في مقاله: "من الجليِّ أنَّ الحداثة هي ظاهرة كونية تندرجُ في سياق تاريخي شمولي لا يُمكن اختزاله في مُحدَّدات حضارية محلية"، فما عادتْ الحداثة تندرج ضمن أدب معين، أو نص شعري أو نثري، وسجنها في هذا المفهوم هو ظلم في حقها، فما عادت المفاهيم تنغلق، فهي تمارس الحرية المفرطة؛ "فالحداثة ليست ظاهرة ثقافية بل نمط وجود تاريخي يفرض نفسه على البشرية بأجمعها"، ولكي لا نغوص في هذا الموضوع نقول بأنَّ الحداثة والتحديث هما أمر مرغوب في الطبيعة الإنسانية العادية؛ فرغبة التغيير والتجديد أمر لا مناص منه، وقد أُطلق لفظ الحداثة عند ظهوره على "عدد من الحركات الفكرية الداعية إلى التجديد والثائرة على القديم في الآداب الغربية، وكان لها صداها في الأدب العربي الحديث خاصة بعد الحرب العالمية الثانية".

ويبدو أنَّ ظهور الرأسمالية المثالية كان خطأ كبيرا في التاريخ البشري، إذا لم نحس لسعته إلا في التطبيق الفاشل لها؛ فظاهر الرأسمالية أنيق وجميع ومفيد، مثله مثل الاشتراكية والشيوعية والماركسية، ولكن الأفعى ملمسها ناعم ولسعتها سامة وقاتلة، وصدق فيها قول المتنبي:

"دعوى الوداد تجول فوق شفاههم...

أما القلوب فجال فيها أشعب".

فالرأسمالية تُقلِّص دَوْر الدولة إلى دَوْر رقابي فقط، وأنَّ الفردَ هو صاحب المال، ويستطيع أن ينمِّي تجارته بالطريقة المناسبة وبشتى الطرق؛ فالغاية تبرِّر الوسيلة، وفي المقابل نسي أولئك أنَّ أصحاب رؤوس الأعمال هم ذاتهم الأشخاص الذين يعتلون المناصب في الحكومات؛ لذا فإنَّ الطغيان المفرط من قبلهم سهل ويسير، وأصبح الدور هنا دورا استبداديا قاتلا، لا دورا رقابيا، فقد تخطَّتْ الرقابة إلى الاستبداد؛ فالتاجر الضعيف الذي يملك بضاعة مُزجاة لا يستطيع أن ينميها لأنه سيصبح فريسة سائغة لأصحاب الأموال، بهذا شاع في المجتمعات الرأسمالية الخداع والرذيلة والفساد الأسود، وانتشرت الرائحة المنتنة التي كان يختبئ وراءها هذه اللمعان الزائف.

بدأتْ الرأسمالية في الخفوت شيئًا فشيئًا حتى جاء مُحدِّثوها، وجمَّلوها بمسمى "الحداثة الرأسمالية"، وما هذه إلا كتلك، ويرجع رواج الحداثة الرأسمالية إلى أسباب؛ أهمها: سقوط الكنيسة وظهور الديمقراطية، وانهيار الدولة والسيادة على حد قول الدكتور عبدالله، وتعيش الحداثة الرأسمالية الآن أزمة قاحلة، مما كان له الأثر الكبير على الشعوب العالمية، خاصة العربية والإسلامية، وما شيوع الثورات -مما سُمِّي بـ"الربيع العربي"- إلا انفجار واضح على أنها ما عادت صالحة، بل عاشت أقبح عصورها هذا العصر، بدأت شرارته من تونس وانتقلت تدريجيًّا لبقية الدول العربية، حتى سقطت حكومات كان يظنُّ الكثير أنها من المستحيل أن تسقط؛ لأن كثرة الكبت يولِّد الانفجار، وهذا بدوره بيَّن المخططات الاستبدادية على الشعوب العربية والإسلامية.. يقول الدكتور فؤاد الخطيب: "إنَّ الدول الغربية المتقدمة -وبمساعدة من الصهيونية العالمية- تُمارس انتقامًا وحشيًّا على الحضارة العربية والإسلامية في شرقنا المتوسط، خاصة بلدان الهلال الخصيب، ونقصد العراق وسوريا ولبنان وفلسطين....".

ولا بُدَّ أنْ لا نَضَع التكنولوجيا بعيدًا عن الأحداث والتطورات في السياسات المختلفة في العالم؛ فقد لعبت دورًا مهمًّا في التاريخ البشري، واليابان هي نموذج ظاهر وواضح للعيان؛ فبعد سقوط القنبلتين النوويتين في جزيرتي هيروشيما وناجازاكي في العام 1948، اعتمدتْ اليابان على التطور التكنولوجي في صناعاتها؛ فأصبحت لديهم ثورة تكنولوجية وضعت ثقتها الكبيرة فيها، وما إنْ تجد مصنعًا يابانيًّا حتى تضع فيه الثقة العليا، كل ذلك كان له الأثر في الحداثة العمرانية والعلمية والفنية والاجتماعية.

لقد حاولَ مُفكِّرو العالم أنْ يُطوِّروا في الحداثة، فظهر ما يُسمَّى بالعولمة، وهي نظام عالمي يقوم على الإبداع العلمي والتطور التقني والتكنولوجي، وثورة الاتصالات؛ بحيث تزول الحدود بين شعوب العالم، ويُصبح العالم قرية كونية صغيرة. وقد تناول الصندوق الدولي العولمة بأنها "التعاون الاقتصادي المتنامي لمجموعة دول العالم، والذي يحتمه ازدياد حجم التعامل بالسلع والخدمات، وتنوعها عبر الحدود إضافة إلى رؤوس الأموال الدولية، والانتشار المتسارع للتقنية"؛ فأصبحتْ العولمة هي المسيطر الأول على السوق العالمية، وكلٌّ يتناوله على حسب تصوره للحداثة الحديثة، أو العولمة، وبهذا أصبحت تجارة أوروبا تنتقل تدريجيًّا للعالم، دون أن يكون هناك احتكار لسلعة معينة في بلد معين، وأصبحت العالمية والشمولية للسلع والمنتجات المختلفة، وهذه هي النداءات التي رفعها أصحاب العولمة ضد الحداثيين والرأسماليين.

... إنَّ شعورَ مفكِّري ومُثقفي العالم بالملل من الحداثة جعلهم ينطلقون إلى مرحلة لاحقة مُوقنين أنَّ بها التقدم، وأنَّ الحداثة ما عاد لها فاعلية كي تُفتح لهم خيارات أخرى جديدة وفي الوقت ذاته رحبة. ومن هنا كان ظهور مصطلح "ما بعد الحداثة"، منها كان التغيُّر في المجالات الحياتية المختلفة، فيقول الدكتور جميل حمداوي: "جاءت ما بعد الحداثة لتقويض الميتافيزيقا الغربية، وتحطيم المقولات المركزية التي هيمنت قديمًا وحديثًا على الفكر الغربي، كاللغة والهوية، والأصل والصوت والعقل، وقد استخدمت في ذلك آليات التشتيت والتشكيك والتغريب، وتقترنُ "ما بعد الحداثة" بفلسفة الفوضى والعدمية والتفكيك، واللامعنى واللانظام، وتتميَّز نظرياتها بقوة التحرُّر من قيود التمركز، والانفكاك عن التقليد وما هو مُتعارف، وممارسة كتابة الاختلاف والهدم والتشريح والانفتاح على الآخر عبر الحوار والتفاعل والتناص، ومحاربة لغة البنية والانغلاق والانطواء، مع فضح المؤسسات العربية المهيمنة، وتعرية الأيديولوجيا البيضاء، والاهتمام بالمدنَّس والهامش والغريب والمتخيل والمختلف، والعناية بالعرق واللون والجنس والأنوثة وخطاب ما بعد الاستعمار".

لقد باتَ فشل ما يُسمَّى "ما بعد الحداثة" وشيكًا، بعد أن ضجَّ العالم كله برداءتِه، وسقوطه في أوحال الكذب والخداع الفاحش والزيف والخلاعة والميوعة، وعانتْ المجتمعات من انتشار الخنوعة، وأصبح العالم ينبُذ بَعْضَه بَعْضًا، كما استطاعت "ما بعد الحداثة" أن تدمِّر الرُّوحَ الإنسانية؛ فالحرية المطلقة باتت تهدِّد حكومات عظيمة، كانت تتبختر بقوتها وفرعونيتها. لا ندعو لجعل الحرية مسجونة بين قصور الملوك والأمراء، أو بين جدران دور العبادة كالمساجد والكنائس، ولكن ندعو لأن تكون هذه الحرية محكومة بالعقل والمنطق والمجتمع، لا أنْ تجعل الإنسان شبيهًا بالحيوان، يسير في حياته دون أن يكون له هدف.. بهذا تنهض الأمم، وتسير نحو حضارة لها صلب وقاعدة ثقافية مجتمعية، لا قاعدة هشة تقوم على الجنس والأنوثة.

تعليق عبر الفيس بوك