فريضة الحوار الغائبة

د. يحيى أبو زكريا

يُعتبر الحوار مبدأ مُقدَّسا في تاريخ الحضارات والفلسفات، وحتى في الديانات السماوية، والشعوب والأمم التي احترفت الحوار كمسلكية ثقافية واجتماعية وحياتية، استطاعت أن تترك بصمتها في المسرح الحضاري والإنساني.

والحوار البنَّاء هو ذلك الحوار الذي يُراكم العملية الحضارية والثقافية، والتي بدونها يكون شكل الحياة باهتا حزينا أحاديا؛ فمثلما تقوم الطبيعة على التنوُّع الخلقي والنوعي والشكلي واللوني، وهذا مما يزيد الحياة بهجة وتألقا؛ فكذلك المشهد الثقافي يكون راقيا ومتألقا كلما كان متنوعا ومتعددا، ويصبح المثقف في هذه الحالة هو المدماك الذي يقوم عليه المشهد العام.

فكيف يا تُرى يكون شكل حياتنا دون قصيدة جميلة، ودون كتاب مؤنس، ودون أفكار حيّة، ودون مسرح متألق، ودون رواية إنسانية مؤثرة، ودون حوار الثقافات، ودون التعددية الفكرية والأيديولوجية، ستكون حياتنا عندها ودون الثقافة حياة جافة دون معنى ولا مغزى.

والثقافة هي التي تُعطي الحياة البعدَ الجميل، وهي التي تشعرنا بجمالية الإنسان في كل أبعاده وبجمالية الكون أيضا. والعلاقة بين الإنسان والثقافة علاقة قديمة للغاية، بل هي مُلازمة له منذ ميلاد الإنسان الأوَّل، ومنذ اللحظة الأولى للإنسان تأسَّست معادلة مفادها أنَّه لا إنسانية بدون ثقافة، ولا ثقافة بدون إنسان، ولا ازدهار ثقافي بدون الحوار بين كل الرؤى والأفكار المتعددة.

ولأجل ذلك، كانتْ الثقافة هي السلاح الذي اعتمده الإنسان في تأكيد ذاته وحريته، وتأكيد أنّه خُلق ليعيش حرًّا. وعلى امتداد التاريخ البشري، استُخدمت الثقافة لمواجهة الظلم وإحقاق العدل، لمواجهة الديكتاتورية وإحقاق الديمقراطية والحرية، ويؤكِّد التأريخ -تاريخ الإنسان مهما كان لونه وشكله ودينه وقوميته- أنَّ المبدعين والمثقفين هم الذين قادوا التغيير، وهم الذين مهَّدوا للتطورات الكبرى التي عرفها التاريخ، والفلاسفة والأنبياء والشعراء والكتّاب والروائيون ما هم إلا بشر من نوع خاص. هم بشر يحملون همًّا ثقافيًّا، ويهدفون إلى تغيير حياة الإنسان نحو الأفضل. فمن أرسطو وسقراط وإلى ابن رشد ودانتون ومونتسكيو وأوجست ستراندبيري...وغيرهم، وقفَ المثقفون في وجه الديكتاتوريات؛ فالشاعر الجزائري مفدي زكريا لطالما تحدى الظلم بقصائده، ونجيب محفوظ المصري لطالما تحدى واقعا غير مألوف برواياته، ولطالما تحدت فيروز بصوتها في لبنان أصوات المدافع والدبّابات، ولطالما شكل شعر نزار القبّاني السوري حالة نادرة من إرادة التغيير، كما أنَّ قصائد محمود درويش وفدوى طوقان في فلسطين كانت مواكبة لنضال الشعب الفلسطيني. ولطالما ندَّدت القصائد الوطنية السورية بجبروت الظلامية والأصولية الراغبة في استئصال الآخر المخالف.

... إنَّ مصير البشرية سيكون مُظلما بدون ثقافة تعددية، والقصائد والأشعار والروايات والأفكار التي تحدّت "العسكريتاريا" في العالم الثالث ستتحوَّل إلى منارات لأجيال الغد. وأكبر دليل على ذلك أنّ الأفكار والثقافات كانت وراء كل التغييرات الكبرى الإيجابية التي عرفها التاريخ، أمَّا الحروب فقد أنتجها الساسة والعسكريون والمصابون بجنون العظمة.

لقد أدرك الظلاميون حقيقة الأدوار الكبرى للمبدعين والمثقفين؛ فسجنوهم وعذبوهم وقتلوهم ودفنوهم أحياء، مُتناسين أنَّهم بذلك يقتلون أنبل ما في الوجود وفي الوقت نفسه يرخون العنان لصيحات مدويّة تفضي إلى أكبر تغيير، ومن هذا المنطلق لا يُمكن أن نقول إنَّ سقراط وابن رشد والسهروردي وغيرهم قد ماتوا؛ فالثقافة لا تموت، قد تغيب لحظة لكن عندما تسطع أشعتها فلا أحد يستطيع أن يحجبها بعد ذلك.

وفي هذا السياق، أقول إنّه ونظرا للتطورات التي تعرفها الساحة الدولية اليوم، يُراد إقحام الثقافة في لعبة الموت، بينما الثقافة فعل حياة، وقد انطلت اللعبة على بعض المثقفين، فأرادوا تقسيم الساحة الثقافة العالمية إلى مدرستين: مدرسة حوار الحضارات ومدرسة صدام الحضارات، ولا شك أنَّ مدرسة صدام الحضارات منتوج سياسي وليس ثقافيًّا، ومنتوج دوائر لا تريد الخير للإنسانية؛ لأنَّ الثقافة تدعو إلى الحب، إلى التلاقي، إلى الاحترام المتبادل، إلى التوافق على بناء الحضارة الراهنة بناءً يكرِّس إنسانية الإنسان، وفوق هذا وذاك فالثقافة مشروع سلام وحرية وأمن وأمان، والصدام سمة نائية عن الثقافة، بل الصدام مصطلح لا تعرفه الثقافة على الإطلاق.

والمثقف الذي يُشكِّل عاملا إضافيا ورقما صعبا في معادلة التكامل الثقافي هو ذاك المثقف البنيوي والعضوي الذي يُضحِّي من أجل أن تسود أفكاره وأفكار الآخرين، وينطلق عقله من قاعدة التحاور مع عقول الآخرين لصناعة دولة ومجتمع الرفاهية للإنسان العربي الذي تخبط في تجارب فردية ساهمت في تراجع مشروع التنمية والنهضة.

والثقافة في مُطلقها الحضاري هي التعددية، والمثقف لا يُمكن أنْ يكون أسيرَ فكرته ومنطلقاته؛ فذاك سيؤدي إلى تحجيم العقل وتطويقه، والمثقف الحضاري هنا هو ذاك الذي يتشاور ويتحاور ويتجادل ويتبادل الأفكار، لكن في نهاية المطاف ينصاع للفكرة البناءة العملاقة التي تردف الدولة والمجتمع بأسباب القوة والمناعة والحصانة من عوامل التعري والتآكل.

كما أنَّ المثقف الذي يُكرِّس ثقافة الحوار كمبدأ هو الذي يجيد السماع والنقاش واستخلاص المعادلات من الأفكار البناءة.

والحوار هنا: هو الحوار بين أبناء الشعب الواحد حول آليات تسيير الدولة أو النهج السياسي المتبع أو الثوابت والمتغيرات التي يجب اتباعها في مسرح دولي مُتعدِّد، كما أنَّ الحوار قد يكون بين الشعوب والحضارات، والتشاور والتفاعل الثقافي بين الشعوب من سمات الراهن البشري، ومجالات الحوار الحضاري تشمل الحوار الحضاري في المجال الديني والمجال السياسي والاقتصادي...وغير ذلك من مجالات الحوار.

وإذا كان الحوار مبدأ في الحضارة الإنسانية وقيمة ثقافية كبيرة، فإنه في الثقافة العربية والإسلامية يعتبر فرضا ووواجبا حضاريا مقدسا أيضا؛ فالثقافة الإسلامية أرخت العنان للحوار وحذرت من الجدل وهو شدة الخصومة. وفي الحديث: ما أوتي الجدل قوم إلا ضلُّوا، والجدل: مقابلة الحجة بالحجة، والمجادلة هي المناظرة والمخاصمة.

والنهي عن الجدل مردُّه إلى العنف المصاحب والغلظة في القول وسرد الحجج؛ ففي الثقافة العربية الحوار ثابت، فيما المجادلة التي تهدف لانتصار فرد ومجموع على فرد آخر ومجموع آخر؛ فالعنف هنا مرفوض والمناط العقل واستساغاته للمقاربات العقلية والمقايسات المنطقية.

والحوار في الثقافة العربية من المحاورة وهي المراجعة في الكلام، وهو المناقشة بين طرفين أو أطراف يقصد بها تصحيح كلام وإظهار حجة وإثبات حق ودفع شبهة. والغاية من الحوار: إقامة الحجة ودفع الشبهة والفاسد من القول والرأي.. يقول الذهبي: إنما وضعت المناظرة لكشف الحق وإفادته وإفادة العالم الأذكى العلم لمن دونه.

والحوار لا يكون في القطعيات والبديهيات والثوابت، وإنما في الأمور المختلف فيها، وفيما أشكل على الناس؛ ليكون طريقا إلى الإجماع والاجتماع والتلاقي.. ومعروف أن الحوار في البديهيات والمسلمات ضرب من السفسطة ولهو ولغو الحديث.

تعليق عبر الفيس بوك