هوية النقل العام.. بين الحافلة والقطار

هلال الزَّيدي

لَيْس من السَّهل تحقيق النجاح لمجرَّد إقامة مشروع مُعيَّن أو إحياء فكرة أكل وشَرِب عليها الدهر، وليس من البساطة أن نُعيد ما تجاوزه الآخرون في بنيانهم الذي شيَّدوه تحت مسميات التنمية والحداثة والتقدم والتطور، وليس من الدِّقة أن نحكم على نجاح مشروع ما في دولة ما بمجرد أنه نجح في دولة وبيئة أخرى، ولا يمكن علينا أن نبني مجرد البنيان دون دراسة مدى مواءمة ذلك البنيان لمستقبل الأجيال القادمة، وعلينا كذلك -وحسب القاعدة التي ينادي بها الجميع- أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، لا أن ندور في حلقة مفرغة بداعي التجربة، مُتناسين الأموال التي تُضخ لشيء يُسمَّى "مشروع تنموي".. إذاً؛ علينا أن نفقه في أفعالنا ونصوِّب أفكارنا، ونحدِّد أهدافنا لتقديم واجب الوطن في مختلف اتجاهاته وعلى تنوع مشاربه التي يقوم عليها.

مُجتمعنا متميِّز باختلاف الآراء فيه، ومختلف باختلاف المصالح التي تدور حوله، ومختلف كذلك باختلاف نتائج الهدف الذي نريد أن نحققه؛ فبالتالي من البديهي جدًّا أن نجد فئات مع، وفئات ضد، وفئات بين ذلك سبيلا، وفئات لا مع ولا ضد ولا بينهما، وإنما ينتظرون وقوع الهدف وبعدها ينحازون إلى القرار الأكبر بانتهاء التوقعات أو ما يُسمَّى إرهاصات التكوين، وهذا ما ينطبق على مشروع النقل العام الوطني "المواصلات" الذي دُشِّن في مرحلته التجريبية، فهو بحد ذاته مشروع كبير فيما صُرف ويُصْرَف عليه، والآمال تُعقد عليه ليكون حلًّا للاختناقات المرورية، أو تنشيط الجانب الاقتصادي والسياحي...وخلافه، لكن ونحن نعيش في عالم متغيِّر سريع في كافة تداعياته، لا اعتقد أنَّ الفوائد التي رسمها المسؤولون ستكون واضحة على أرض الواقع، لأننا مجتمع متناقض في احتياجاته ومتفاوت في كل شيء.

مشروعُ النقل العام تطوَّر بتطور الوسيلة.. والحافلة وسيلة من وجهة نظري لم تعد وسيلة المرحلة الراهنة أو القادمة؛ لذلك سيكون هذا المشروع هدرا للمال العام دون فوائد كبيرة كما هو معقود عليه؛ لأننا تجاوزنا مثل هذه الأفكار، وهناك من سبقنا إلى أكبر من ذلك؛ فمحطات السكك الحديدية بشتى أنواعها بديل أفضل، صحيح أنه مكلف لكنه هو المستقبل الذي يجب أن يُشكِّل هوية النقل الوطني في قادم الأيام، وأنا هنا لا أمثل وجهة النظر المتشائمة، لكنني أقرأ الواقع من مبدأ أننا أحد إفرازات المجتمعات ذات الريتم السريع في الحياة.

هناك أصواتٌ تنادي بأنَّ هذا المشروع سيُؤثر على المسترزقين من أصحاب سيارات الأجرة، وهذا الرأي ربما يكون مبنيًّا على التعاطف مع هذه الطبقة، إلا أننا وبهذه النظرة سنبقى في خانة متأخرة في تطوير شبكة سيارات الأجرة؛ لأنها تسير دون وجود ضوابط أو إستراتيجية واضحة تُساهم في بناء الاقتصاد الوطني، وتنعش الجانب السياحي؛ لأن تجربتنا لها ما لها وعليها ما عليها من ملاحظات، وفكرة تكوين شركة تضم أصحاب سيارات الأجرة ممن لا توجد لديهم وظيفة، هو الأصح والأصلح كما هو في كثير من الدول؛ لذا فمن البديهي أن تتأثر هذه الممارسة؛ كونها تعتمد على الوافد في تنقلاته، ليحل النقل الوطني مشكلة الوافد مع أصحاب سيارات الأجرة.

صَوْت آخر يُطالب بدعم هذا المشروع من بوابة الوقوف مع الجهة المشغله لمشروع هذه الحافلات كهوية جديدة، لكنه صَوْت يحاول أن يجرب لمجرد التجربة فقط، وتقديم نفسه في شبكات التواصل الاجتماعي بأنه حاضر ومتفاعل مع كل ما يمس مصلحة المجتمع، لكن بهذا الصوت وبهذه التوجهات لا يمكن أن نجامل من أجل الوطن لأننا نحتاج إلى صراحة تامة، وننقل تجارب الدول المتقدمة بما يلائم حاجة المجتمع بمختلف فئاته؛ لأنَّ فكرة النقل العام فكرة لا تكون رئيسة، وإنما مُكمِّلة لمشاريع القطارات التي تحل ما تعانيه شوارعنا من ازدحام مروري خانق، كما أنها لا تؤثر على مشاريع سيارات الأجرة الصغيرة والمتوسطة؛ لأن القطارات تعتمد على المسارات العامة؛ وبالتالي الاثنين يُمكلان بعضهما البعض.

نتمنى أن تتضح مسارات مشروع السكك الحديدية "القطارات" لتشكل هوية النقل العام الجديدة؛ لأنها هي الهوية العالمية التي ستنقل نجاحات التنمية إلى مواقعها المتميزة على الخارطة العالمية؛ لذا فحتى لا نهوِّل بأهمية النقل العام المعتمد على الحافلات علينا أن نفكر جديا في توسيع هذه الشبكة بما يخدم المجتمع حاضرا ومستقبلا؛ لأنَّ الأجيال تتغيَّر وتتبدَّل ومعها تتغير الاهتمامات والحاجات، وعلينا أنْ لا نترك الواقع مرهونا بالتجارب التي لا تقود إلى النجاح؛ فأخذ العبرة من تجارب الغير مهمٌّ جدًّا، وعليها نبني متطلبات المستقبل.

رُبما من المبكر جدًّا أن نحكم على مشروع النقل الوطني المتمثل في الحافلات التي تجوب الشوارع، وربما ستزيد من الاختناقات المرورية، لأنه لا يزال في المرحلة التجريبية، لكن في المقابل علينا ألا نهوِّل في نجاحه بعيدا عن الواقع، وعلينا أن نعي أنَّ مجتمعنا يحتاج إلى وسيلة أسرع وأرخص ولها وقع عالمي كالقطارات؛ لأنها تشكل تجربة جديدة؛ فالجميع لديه فضول التجربة في استخدامها، ولا نبالغ إذا قلنا بأنها ستنجح نجاحا كبيرا، ولنا في تجربة دبي خير دليل.

همسة:

"جاء المبدعون والمبدعات، فشمَّروا عن السواعد ونصبوا الهامات، فأوجدوا من الحبة قبة، ومن اليوم دهورًا وحقبات، "فنادوا ولات حين مناص"، تركوا الأهم وركنوا لسفاسف الأمور والغايات؛ فلا غاية في مقاصدهم ولا نيات إلا الظهور كفقاعة لا تدوم إلا للحظات؛ فأسرجوا خيولهم ليقدموا الأدلة والبينات بأنهم ينتمون لأرض تغطيها السماء وتزينها النجوم والكويكبات، فأوقدوا صرحا من خيال فهوى، وزيَّن لهم الشيطان أعمالهم فغوى، إلا من اهتدى وعمل صالحا ونجا، لأنَّ حُبَّ الوطن أمانة وإتقان عمل، لا بيروقراطية ينهشها الملل جراء أعمال شكلية لا ناقة للعقل فيها ولا جمل".

* كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك