لقوم يتفكرون (الحلقة الخامسة)

مع نظرية هيجز في أصل الخلق

بدر بن سالم العبري

نظرية هيجز "نظرية علمية فيزيائية برزت في العام 2011، أحدثت جدلا كبيرا (قبولا ورفضا وتعديلا) بين العلماء والمفكرين والمثقفين والأحزاب الدينية والفكرية، وهي بكل اختصار تفترض أن الكون عبارة عن فراغ وقد أُخترق هذا الفراغ من قبل جسيم "هيجز"، ووظيفة هذا الجسيم هي أن يعطي الأشياء كتلتها والكون شكله ويحفظ الحياة على الكون، وتكتسب الأشياء شكلها عن طريق احتكاكها وتفاعلها مع الجسيم، فكلما زاد تفاعلها زادت كتلتها، وكلما قل تفاعلها قلت كتلتها وتكون أقرب للطاقة مما أن تكون مادة، وبالتالي يعد هذا الجسيم هو مُنشئ شكل هذا الكون، وبدونه سيكون هناك الفراغ والعدم والأشياء تصبح متساوية الكتلة مجرد فوتونات وضوء يهيم في الكون".

ولقد أُلصقت هذه النظرية بالإلحاد، واستُغلت كدليل على عدم وجود إله في الكون، والكون وجد صدفة، وعليه لا أدري ما علاقة هذا بالإلحاد، فهذه النظرية تثبت في حدّ ذاتها الوجود بأنه لم يكن صدفة هكذا، وقرن الله تعالى بهذه الجسيمة قياس مع الفارق، فهذه في النهاية طاقة أو مادة، والله تعالى بخلاف ذلك؛ حيث قال: "فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ".

وعليه.. فلا يجوز المقارنة أبدا، بل إنّ الله سبحانه وتعالى ذاته بيَّن في كتابه وأشار إلى هذا الانفجار: "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ، وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ".

... إنَّ القرآنَ كطبيعته يقرب الصورة لأنه كتاب هداية، ويعطي مساحة واسعة للنظر والتعقل والتأمل والتدبر، والسير لاكتشاف سنن الكون وتسخيرها.

وعليه.. فإن هذه النظرية أيضا وإن كانت نظرية، والبعض يعتبرها فرضية، إنما هي في ذاتها دالة على الموجد الأول، فمن الذي أوجد هذا الجسيم؟ فإذا كان الكون بأجمعه لم يكُ نتاجَ صدفة لأن هذه النظرية تُبطل الصدفة، وتعيدها إلى الجسيم الأول، وعليه اعتبار الجسيم الأولى نشأ صدفة فهذا نوع من المغالطة؛ فالسببية تُثبت أنَّ له مُسبِّبًا في النهاية، وهذا لا يكون إلا الله وحده سبحانه وتعالى، وقد تأتي نظريات تثبت له سابق من المخلوقات، وفي النهاية النتيجة واحدة وهي الإيمان بالموجد الأول سبحانه وتعالى.

مثل هذا كمثل القصر العظيم، فهذا له بداية، ولا يعقل لهذه البداية أن تكون منشأ صدفة، فهناك مهندس وضعه وخططه، وأتقن صنعه، ثم هذا المهندس ليس من ذوات القصر، فهو نوع منفصل، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى.

وعليه.. فالقرآن أعطى بحبوحة للنظر والتأمل والتدبر، وضَمِن كل من أعمل عقله ونظر وتدبر سيقوده إلى الإيمان والتوحيد، وكل من وصل وبعدها كابر فهو في الحقيقة مكابر ومعاند، والشك يقود إلى الإيمان، والعلم طريقه، وهما نقطتان يربط بينهما خط السير في الكون، واكتشاف ما فيه، وغايته عمارة الكون تحت العبودية المطلقة لله جلَّ جلاله.

فلا يجوز الخلط بين القرآن ونتاج البشر، فإذا كان الثاني يعارض العلم فلأنه صُنع بشري، أما كتاب الخالق فهو يدعو إلى العلم، ويعتبر الإيمان عن طريق العلم لا التقليد.

ومن هنا، فإن الإلحاد في الحقيقة لا وجود له في العلم والقرآن معا، والتشبث به تشبث ببيت العنكبوت ينهدم أمام النظريات المعرفية والعلمية وحقائق الوجود، رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

تعليق عبر الفيس بوك