قصة ثلاث مدن

فؤاد أبو حجلة

لا يمكن لأي إنسان سوي إلا أن يتعاطف مع ضحايا الإرهاب الظلامي الذي ضرب عاصمة النور باريس قبل أيام. ولا يمكن أن يعترض إنسان عاقل على إجراءات الحكومة الفرنسية لحماية مواطنيها، وعلى تضامن حكومات وشعوب العالم مع باريس المنكوبة في هذه الأيام السوداء.

نتعاطف مع أسر ضحايا الإرهاب في باريس، ونتضامن مع فرنسا في محنتها، ونختار أن نتجنب تذكير الفرنسيين والأوروبيين عامة بأن ما جرى في باريس وقبلها في مدريد ولندن هو نتيجة السياسات الخاطئة للدول الغربية التي تنخرط في الصراع الشرق الأوسطي بانحياز واضح للقوى الظلامية سواء في الكيان الاحتلالي التوراتي المسمى إسرائيل أو جماعات ومنظمات الرجعية الدينية التي تزعم احتكار الإسلام.

هذا وقت تضميد الجراح وليس وقت اللوم أو الشماتة لا سمح الله. لكننا نعتب على أؤلئك المبالغين في هذا التضامن في بلادنا المنكوبة بالاحتلالات وبالفقر والتخلف منذ مئات السنين. ونعتب على الذين تضامنوا مع باريس ولم يتضامنوا مع بيروت والقدس اللتين يسيل فيهما دم الضحايا العرب بتفجيرات الإرهابيين الظلاميين ورصاص الإرهابيين التوراتيين.

كان طبيعيا أن يعزف النشيد الوطني الفرنسي في ملاعب كرة القدم في بريطانيا، وكان منطقياً أن يرفع الإنجليز أعلام فرنسا في مناسباتهم العامة وعلى شرفات ونوافذ منازلهم، فهذا تعبير عن حس إنساني رفيع، وهو أيضا تعبير عن التضامن مع الشريك الأوروبي التاريخي والجار القريب.

قدم الإنجليز في الأيام الأخيرة درسًا بليغاً في التضامن مع القريب، لكن العرب الذين نسخوا التجربة الإنجليزية لم يقرأوا معناها ولم يفهموها، لذا قلدوها فقط برفع أعلام فرنسا على أبراجهم العالية، ولم يكن دم الضحايا اللبنانيين قد جف في برج البراجنة، ولم يكن دم الضحايا الفلسطينيين قد توقف عن الجريان على أرصفة القدس والخليل.

لست ضد توشيح أبراج العرب بالعلم الفرنسي أو بعلم مالي، لكنني أسأل عن سر هذا التجاهل للبنان وفلسطين، بل إنني أشعر أن العلم الفلسطيني بات مكروهاً في العواصم العربية التي تتزين بأعلام برشلونة وريال مدريد ومانشستر يونايتد، ولا يجرؤ تلاميذ المدارس فيها على رسم علم فلسطين على دفتر الجغرافيا.. أو التاريخ المزور.

لماذا هذا التجاهل؟ ولماذا كل هذا التعتيم على ما منارات المقاومة في بلادنا؟ لماذا يتم التعتيم على جريمة الضاحية؟ وعلى الجرائم الإسرائيلية اليومية في فلسطين؟

وكيف لقنوات فضائية عربية أن تكون مهنية حين تتعامل مع الخبر الفلسطيني باعتباره خبرًا ثانوياً؟ وكيف وصلنا إلى هذا المستوى من الانحطاط الذي يساوي بين الضحية الفلسطيني والقاتل الإسرائيلي، ولماذا يسمى الشهيد قتيلا في قنوات تزعم المهنية وهي تمارس التضليل في كل ملفات الصراع في المنطقة.

لم تحظ بيروت والقدس بعشر ما حظيت به باريس في الإعلام العربي، ولولا الخوف من الفضيحة لكانت منابر إعلامية عربية تضليلية معروفة خصصت برامج للحديث عن معاناة الإسرائيليين من السكاكين الفلسطينية.

لا أبالغ، فأنا أعرف الكثيرين من أصحاب القرار وصانعي السياسة في هذه المنابر الإعلامية، وأعرف مضمون الرسالة التخريبية للعقل العربي ومحتوى الخطاب التجهيلي الذي يحاولون ترويجه.

أعود إلى قصة باريس لأعيد التأكيد على ضرورة التضامن مع فرنسا شعبًا وحكومة في مواجهة الإرهاب الظلامي والاستهداف الدموي لهذه العاصمة التي عرفناها منارة للحريات.

وأعود إلى قصة بيروت لأعيد التذكير بأنها أيضًا كانت منارتنا العربية المضاءة بالتقدم والحرية في زمن التخلف وظلام الرجعيات العربية التي انتجت إرهابيي العصر.

لبيروت حق علينا جميعاً في أن نتضامن معها، وأن نعلي جراحها على انحيازاتنا وحساسياتنا الطائفية، وأن نتذكر فضلها علينا.

وأعود إلى قصة القدس لأستقر في مجالها الحيوي الذي يظل يغطي كل سماء العرب، مهما تعمدت الحكومات تجاهلها ومهما بلغ التحريض عليها.

سلام لباريس في هذه اللحظة الموجعة، وسلام لبيروت في زمن الانحطاط العربي، وسلام للقدس في كل الأزمان.

تعليق عبر الفيس بوك