لا تصالح

جمال القيسي

من أكثر المقولات العربية التي لا تزال تُؤثر بي هذه: "بُؤ بشسع نعل كليب".. يا للبلاغة، ويا للإيجاز، ويا لمقدار الأنفة والفخر في هذه العبارة الخالدة؛ ما أعظم أنْ لا يتنازل الإنسان عن ذرة ممَّا يراه حقه. لن أجادل، هنا، في أمر أن قائلها، حسب ما وقر في الشعبية الزير سالم، كان متجبرا، مستبدا، غضوبا، متجاوزا، حدود العقل، إذ قالها وهو يقتل بجيرا بن الحارث بن عباد، حين جاء يعرض نفسه على الزير كي يقتله (دية) مقابل شقيقه ومليكه المغدور كليب، وإنهاء حرب البسوس. غرس السيف في قلب بجير، وهو يصيح: "بؤ بشسع نعل كليب". والشسع ببساطة هو ما ينخلع من النعل، ولا يكاد يُرى، ولتوضيح المقولة فإن الزير قصد باختصار (إنك لا تساوي خيطا انخلع من نعل كليب). يا للوفاء للأخوة، وحفظ العهد، وتنفيذ الوصية. لا تصالح.

لماذا يظل الثأر قيمة عزيزة على قلبي؟ هل بسبب الإهانات الكثيرة التي نعيشها في هذا العالم العربي على المستويين العام والشخصي. بلى. الثأر لديَّ مثل عال حين يتعلق بالكرامة، والثأر من المعتدي المتكبر. دعني من فكرة الاحتكام للقانون والعقل! أين كان القانون حين أخذ القاتل الضحية غيلة وغدرا، حين لم يواجهه مواجهة الفرسان النبلاء اللذين يتبادلان قبيل المواجهة تحية الفروسية والإقبال على الموت برباطة جأش لإيمانهم بما يدافعون عنه.

لم تثأر العرب لأي قتيل راح ضحية مواجهة عادلة في ساحة المعركة. كانت تسحب الفارس الشهيد بمرارة الفقد، مع عهد في الروح على مواصلة ما قتل عليه، وليس من باب الثأر له. هند بنت عتبة التي قتل حمزة بن عبد المطلب، عم النبي الكريم، أباها وأخاها وعمها، حين طلبت كبد حمزة بن عبدالمطلب ومضغته، فعلت ذلك كراهية لحمزة وحقدا عليه، لأنه قضى على روحها في ثلاثة مقاتل. ولم تعلن أنها تثأر. في أدبيات العرب المرأة لا تثأر بل الرجل هو الذي يتصدى لهذه المهمة.

فارسا مغوارا الزير سالم طوال حياة شقيقه ومليكه وحبيبه، محاربا هماما وشرسا في المعارك، ولكن في حياته الاعتيادية كان مسالما، يحب السهر، والليل، والنساء. ساخرا، وشاعرا، وشهما، وسخيا، يرعى رابطة الدم، وأقرب الناس لروحه ابن عمه، شقيق قاتل أخيه. تحول الزير لحقد يسير على قدمين حين جرحت كرامته. فتمثّل الوفاء المطلق، وتصدى لهذا الأمر الكبير. والوفاء شيمة الإنسان/ة النقي/ة، التلقائي/ة، الفارس/ة، الحقيقي/ة.

الأرملة/ الأرمل أو المطلقون، أو المنفصلون، أو العشاق أو الأصدقاء الذين انتهت حكايتهم إلى قطيعة، لا يستحقون تلك الروابط المقدسة إن لم يتمثلوا بعد انتهاء العلاقة الوفاء النابع من وجدانهم الشفيف.

(يا لثارات كليب) ولم يقل الزير يا لثأر كليب. بلى الأمر أكثر من ثأر!

تسألني، يا رعاك الله، عن نبذ العنف؟ أجيبك: حين يكون العنف والحرب دفاعا عن الكرامة، فإنما هو الفعل الأجمل والأنبل والوفاء الذي يمنح الإنسان معنى وقيمة مضافة لوجوده. إذ سيكون حينها مقاتلا بشرف، ويخوض حربا مقدسة لا حرب التعطش للدماء، وشهوة الملك والتوسع.

تُرى كم من ثارات للعرب الشرفاء مع العدو الصهيوني الذي يغرس مخرزه في العين العربية صباح كل يوم منذ ما يزيد على ستين عاما؟ كم لنا من ثارات مع هؤلاء الوحوش وأشباههم؟

أنا أسألك.. كم من ثارات لنا مع خفافيش الظلام، أعداء الحياة؟

ارفع رأسك الأبية، وقل لكل مخلوق، وكل قوة في الكون، حاولت التطاول على قدسية كرامتك أو حلمت بالاقتراب منها (يا لثارات كليب).. وللحديث بقية.

تعليق عبر الفيس بوك