في يوم عيد الوطن

د. مُحمَّد العريمي

هو مقالٌ سبق نشره قبل عدة سنوات، وأراه صالحاً اليوم، بل وكل يوم؛ كي نتذكر كيف كنا وكيف أصبحنا، استعنتُ من خلاله بشهادات العديدين ممن زاروا عُمان أو عاشوا على أرضها في فترات سابقة لعصر النهضة، أو كانوا شاهدين على ما تحقق، أمثال الطبيب بول هاريسون في كتابه "مذكرات طبيب في شبه الجزيرة العربية"، والكاتب محمود السعدني في "رحلات ابن عطوطة"، وتحقيق مجلة العربي الكويتية حول عُمان عام 1970 وغيرهم.

أُعيد نشره وعُماننا الحبيبة تحتفل بعيدها الوطني بعد خمسة وأربعين عاماً مرت كغيمة تحمل الخير والرخاء، وما زال رذاذ نفحاتها يغمر أرجاء الوطن على اتساعه بفضل العلاقة الحميمة، والود المتبادل، والثقة بين القائد وشعبه، تبوَّأت من خلالها مكانة مرموقة على الخارطة الدولية، دولة عصرية حديثة متوازنة السياسات، تنطلق من حضارة عريقة، وماض مجيد، واضعة نصب عينها المستقبل بكافة أبعاده.

أعيد نشره كي نقف لنثمن حجم البذل والعطاء، نقف لنؤجل انتقاداتنا ورؤانا وملاحظاتنا ولو ليوم واحد، لنقول لهذا القائد الفذ الكريم المصلح: إنَّ ما بذلته في سبيل هذا الوطن أكبر من يعبر عنه، وأعظم من أن يحتويه سفر، فقط سيبقى في القلوب وستبقون معه رمزاً وأباً وقائداً ومعلماً وملهماً، انحزتم للوطن والمواطن فانحاز لكم، أعطيتموه الشيء الكثير فأخلص لكم.

أُعيد نشره دون أن يُنسينا هذا إكمال المسيرة، وأن نقف بين الفينة والأخرى لمراجعة سياساتنا المختلفة، ومدى توافقها مع التغيرات التي يمر بها العالم، وأن نقف مع السلبيات والملاحظات التي قد تنجم عن تطبيق خاطئ لبعض السياسات، أو سوء تصرف من قبل مسؤول ما.

هكذا كنا سيدي.. "دولة تعيش في النصف الثاني من القرن العشرين بلا ماء ولا كهرباء، ولا شوارع ولا مقاه، ولا حدائق ولا مواصلات".

وهكذا رأوها.. "خُيِّل إليَّ من أول نظرة ألقيتها على البلاد أن هؤلاء الناس مجرد أسرى طال بهم الزمن، وأن الداخل هنا مفقود والخارج مولود".

هكذا كان ينظرون إلينا.. "وعُمان قطعة من العالم القديم، دجل وترﱠهات وخزعبلات، وظلام فوق ظلام، وأناس طيبون يروحون ويغدون، والوقت هو أرخص السلع في عُمان، الأسنان تُخلع بالدوبارة، والناس هناك يأكلون المكرونة بالسكر".

وهكذا كان حالنا.. "الناس مَرْضى في عُمان؛ لأنه لا يوجد إلا طبيب واحد لكل مائة ألف مواطن، الناس جياع فقراء في عُمان؛ لأنهم يجهلون شق الأرض، وإخراج الغذاء والماء، الناس جهلاء في عُمان لأنه لم تفتح مدرسة ليتعلموا فيها".

هكذا كانوا يتفاجؤون.. "فُوجئت بأنَّ كلَّ شيء نادر وقليل في عُمان، الماء والطعام والنقود، الشيء الوحيد الذي يوجد بوفرة هو الذقون، والشيء الآخر الذي يوجد بشكل أوفر من الذقون هو الأمراض السرية، فهي ترعى بين أفراد الشعب كحريق شب فجأة في غابة أصابها الجفاف منذ زمن طويل"، "لم يكن في عُمان إلا القليل القليل مما ينعم به الناس في البلاد الأخرى، فلا شوارع ولا مباني حديثة ولا إذاعة ولا تليفزيون ولا وسائل ترفيه، وكانت الحياة بالليل أشبه ما تكون بما يُسمَّى حظر التجول".

هذا ما تعلموه عن وطننا.. "أول شيء تعلمته في مسقط هو أن صحة الشعب ضعيفة، والشيء الثاني الأسوأ هو أن السبب الأساسي لذلك هو الحالة الاقتصادية، إنَّ الصحة هي سلعة يمكن شراؤها، ولكن لأن العُمانيين لا يملكون المال فهم لا يستطيعون شراء ذلك الشيء الثمين"، "كانت عُمان مركزاً بغيضاً للملاريا، أما أمراض المعدة فالمسؤول عنها هو هذا العدد الكبير من الذباب، وينتشر الجذام في كل مكان، بينما يعد الجدري سوطاً مدمراً فيها، وتنتشر كذلك أمراض العيون حيث يبلغ عدد العميان في عُمان الآلاف".

هكذا كانوا يصفوننا.. "كنا نرى عمالقة من ذوي اللحى السوداء أتوا من بلاد بعيدة عن مسقط، أقول كنا نراهم وقد أتوا زحفاً بسبب الملاريا التي افترستهم؛ حيث إنَّ مسقط كانت تعج بأسراب البعوض، ولم يستطع غريب أن يهرب من الإصابة بالحمى".

وهكذا كانوا يقارنوننا.. "هناك حقيقة يجب أنْ لا نغفلها، وهي أننا إذا وضعنا مستشفيات أمريكا في أعيننا، فلن نستطيع القول بأنَّ ما بمطرح يُسمَّى مستشفى، في حقيقة الأمر ما لدينا هو منزل للعناية بالمرضى، لا يوجد راديو، ولا أسرَّة، ولا شيء آخر، فقط يوجد بالحجرة ركن واحد مملوء بكيس كبير للفحم، وكمية من أخشاب الوقود، وفراش فوق الأرض، ودائماً توجد الأواني وقدور القهوة، وأهل المريض يقومون بشراء أصناف الطعام، ويقومون أيضاً بعملية الطهي في نفس المكان".

هذه كانت مواردنا.. "أمَّا موارد عُمان، فهي شمسها وأمطارها وتربتها؛ فالشمس هناك تكفي مدينتين، بينما لا تكفي الأمطار مدينة واحدة، لهذا ينظر الزائر إلى عُمان وهو مشفق عليها ويتساءل: لماذا يريد الناس أن يعيشوا هناك؟ ومن يستطيع أن يستخرج الحياة من هذه المنطقة المليئة بالجبال"، "وتعتبر الضرائب شيئاً جديداً في عُمان؛ إذ يجب أن يزيد الدخل بعد أن انخفضت الرسوم الجمركية، ونتيجة لذلك رحل ملاك الحدائق إلى زنجبار، أو الهند، أو إلى أي مكان آخر حيث تقل الأعباء. هكذا كان المواطن العُماني محاصراً حتى في قوت يومه".

وهكذا كان يُختزل الوطن.. "إنَّ الحياة الدنيا الوارد ذكرها في القرآن الكريم هي مسقط. أجل، أقولها صدقاً، إنَّ الغالبية العظمى من أبناء جيلي يظنون أن مسقط هي العالم كله".

هكذا كانوا يتحسَّرون على تاريخنا العريق الذي عاد لنا.. "ولطمت على خدي حزناً على المصير الذي انتهت إليه أرض عربية كانت درة في تاج العروبة، وكانت حجر الأساس في صرح العروبة وإلى زمن طويل، فإلى هذه البلاد كان ينتمي أعظم حكام إفريقيا الشرقية، وإلى هذه البلاد كان ينتمي آخر الملوك العرب في الكونغو أو ما يعرف بزائير، وهو الملك (تيبو تيب)، وهذه البلاد نفسها هي التي فرضت إتاوة على السفن البريطانية خلال رحلتها من الهند وإليها، وهي التي حطمت أسطول البرتغال في مياه الخليج".

هكذا كنا سيدي قبل مجيئكم، هكذا. أما الآن.. فتلك حكاية أخرى.

تعليق عبر الفيس بوك