طبقة "الكهنوت" في القرون الوسطى العربية

رحاب أبو هوشر

مناخات القرون الوسطى في أوروبا، المعروفة بقرون الظلام، تشكل المقاربة التاريخية الأكثر دقة لواقع الحياة العربية. كانت الكنيسة تقبض على مفاصل الحياة الأوروبية، بوصفها الوسيط الزمني بين الله والشعب المؤمن. تقرر صفات المؤمنين والكافرين، وتصدر صكوك الغفران والجنة، أو تعلق المشانق لإرسال الكافرين إلى الجحيم. وهذا ما يتمثله اليوم الخطاب الإسلامي الأصولي، الذي أنتج خلال انتشاره وتمدده في مؤسسات المجتمع، طبقة "كهنوت"، معادلة لذلك الكهنوت الكنسي القروسطي، في جمودها ومعاداتها للمعرفة والعقل، وفي هيمنتها ودفاعها الشرس عن دورها الفقهي "النقلي"، وعن مصالح واسعة لها، نشأت من طين الهزيمة واليأس والتخلف. لدينا "كهنوت" إسلامي يحتكر الدين وتفسيره، وينطق باسمه، ويمارس الوساطة بين الله وعباده، ويخضع لسلطته طيف من "المؤمنين"، يتبعه ويضعه في مكانة مقدسة.. لن يغير من حقيقة وجود هذه الطبقة، نفي وصف "الكهنوت"، واستبدالها بتسميات تراثية إسلامية مثل الفقهاء والعلماء والشيوخ.

أوكل معظم الناس أمور حياتهم كلها، وليس تلك الخاصة بقضايا دينية فحسب، للفقهاء والشيوخ. لم يعد بإمكانهم التحرك تجاه أي فعل، سواء كان قضية كبيرة أو تفصيلا معيشيا يوميا، إلا بعد المرور بفقيه أو شيخ. يسألونهم ويستفتونهم فيما يأكلون ويشربون ويلبسون. يستفسرون عن مشروعية شرب الماء، جلوسا أو وقوفا، وهل مشروبات الطاقة حرام أم حلال، وبأي يد يمسكون إبريق الوضوء، وهل رفع المرأة لصوتها في قراءة القرآن يبطل صلاتها، وإن كانت الملابس الملونة للمرأة حراما أم حلالا! هذه مجرد أمثلة لاسئلة وردت في أحد مواقع الفتاوى، التي تتزايد باضطراد، لتلبية حاجات الشعب "المؤمن".

لا يريد أحد منهم أن يفكر، كما لا يسعون إلى القراءة بالتأكيد، لماذا وهناك من يقوم عنهم بهذه المهمة، من هو أكثر علما ومعرفة منهم كما تقول لهم وسائل الإعلام ويسمعون في خطب الجمعة، من يمتلك قدرات عقلية وإيمانية تفوقهم؟! رغم أن الإسلام يقوم على العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه، وانتفاء أي وساطة، ورغم أن القرآن الكريم يوجه خطابه للناس جميعا، إلا أن التفكير الفردي الحر، والبحث عن الإجابات والحلول، مذموم ومرفوض في الخطاب الديني السائد، ويعتمد "النقل" عن التفسير والفقه الموروث، وحتى هذا يحصر فهمه والتعامل معه بطبقة الفقهاء والعلماء، ويركز على دورهم في فهم العقيدة وتمام الإيمان. هذا الخطاب الذي تغلغل في مختلف نواحي الحياة، أنتج "مؤمنا" كسولا نحو المعرفة. مشلول العقل، يخاف التفكير وطرح الاسئلة والبحث عن الإجابات، خوفا من الوقوع في المعصية، فيضع مقاليد حياته في أيدي من بإمكانهم ضمان الجنة له. يهرب من تحمل مسؤولية تفكيره، لشدة خوفه، ليعتاشوا على هذا الخوف.

صفوف من الناس في خطب الجمعة، يحدقون في خطيب يعظهم زاعقا بلغة صارت رميما، ويظل يعيد على مسامعهم حكمة الوضوء، وكيفية التيمم، ويحذرهم من عذاب القبر، وفي كل أزمة أو كارثة سيصرخ متجهما ويؤكد أنها بسبب النساء مصدر الخطايا. خطباء قرأوا بضعة كتب فقهية، ما زالوا يمارسون أداء شيوخ الكتاتيب، ويستمع إلى خطبهم مهنيون وموظفون وتجار، وأساتذة جامعات، وعند خروجهم يتحدثون في موضوع الخطبة، ويبدي بعضهم إعجابه بقصة الخطيب، أما إذا احتج أحد على قول أو فكرة طرحها الخطيب، أو أبدى رأيه في طريقة إلقائه لها، على الأقل، فسيلاقي استهجانا من الآخرين، إذ كيف ينتقد شيخا يصلي بهم!

يكفي أن يرى الناس رجلا ملتحيا وله هيئة شيوخ الدين، يقرأ قرآنا ويحفظ أحاديث نبوية ويكثر من الأدعية، حتى ينال معاملة خاصة لديهم. إنّه أحد ممثلي الدين في الأرض! على نحو بديهي يفترضون ورعه وتقواه و"علمه"، ويتخذون منه مرجعا دينيا، ويقرون بسلطته، ويسبغون عليه قدسية، وإذا دافعوا عنه بشراسة فهم يدافعون عن دينهم! ولا يمانع الشيخ التقي أبدا مظاهر التبجيل الزائدة.

يمكن لرجال "الكهنوت" أن يجمعوا المريدين بسهولة، وأن يحلوا عليهم بركات الإيمان والفتاوى، بل بإمكانهم أن يعيدوا بناء فهمهم للدين. وكان لتلازم تجارة الدين والسياسة أثر في تكريس سلطة "الكهنوت"، فعليه مسؤولية غسيل أدمغة التابعين، واستثمارهم وإدارتهم وفق الأغراض السياسية وحروبها.

كانت الكنيسة في أوروبا تمثل سلطة مطلقة، أخضعت المجتمع والسلطات كلها بما في ذلك النظام السياسي. لم تكن حليفا أو غطاء شرعيا للنظام السياسي، كما هي تركيبة النظام العربي، وهذا فارق جوهري وليس بسيطا أبدا، لعب دورا أساسيا في إنجاح ثورة أوروبا على سلطة الكهنوت الديني وإنهاء نفوذه في الحياة العامة، وإعادة الاعتبار للعقل ونشاطه. لقد كان النظام السياسي أداة في خدمة الكنيسة، تضرر من هيمنتها، وكان جزءا من الثورة عليها، أمّا الكهنوت الإسلامي فذراع من أذرع النظام السياسي، ما يجعل مهمة نزع سلطته لدينا معقدة وصعبة.

تعليق عبر الفيس بوك