جدلية الدين والدولة والاختلاف حولها

عبد الله العليان

لا تزال قضية الدين والدولة في الفكر الإسلامي، مدار نقاش وحوار منذ ما يقرب من قرن، ولا يزال الجدل حوله مستمرًا حتى الآن، من خلال المؤلفات والدراسات المتعددة، والمعروف أنّ الدولة قضية لازمة بالأمة، عندما تستقر في وطن مُحدد وثابت، وتكون لديها تشريعات ونُظم، سواء كانت سماوية أو أرضية، ومن هنا فلابد من تطبيق الأحكام في هذه التشريعات لتنظيم العلاقة بين المواطنين في المجتمع، وتنفيذ القوانين واللوائح من خلال سلطة الدولة السياسية والسيادية على مواطنيها..وفي كتابه الصادر حديثاً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة (مفهوم الدولة الإسلامية..أزمة الأسس وحتمية الحداثة) للباحث/ أمحمد جبرون، يطرح هذه القضية الإشكالية، فيقول: حاول كثير من المفكرين والساسة من مختلف الاتجاهات والمرجعيات أن يجيبوا عن أسئلة ـ الدين والدولة ـ أو المرور ببعضها، ومن ثم تسوية العلاقة بين الإسلام والدولة، غير أنّ الظاهر الذي لا يرقى إليه شك هو أن جميع محاولات التسوية هذه لم تنجح بقدر كافٍ في حسم النقاش وتجاوز الإشكال، إذ بقيت أزمة "الإسلامية" مطروحة نظرياً، ومهلكة ومستنزفة عملياً لكثير من القوى والتيارات، الشيء الذي ترك الباب مفتوحاً لظهور مزيد من المحاولات التنظيرية والمساعي البحثية النقدية التي تتوخى إبداع مقاربات نظرية لقضية "الإسلامية" أقدر على التأثير في الواقع من سالفاتها. يرى المؤلف أن الحديث كثر في عصرنا الراهن في العالم الإسلامي منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عن المحتوى السياسي للإسلام، ومكانة السياسة في المصادر الأساسية للإسلام، وغيرها من القضايا ذات الصلة. وظهرت مئات الدراسات والأبحاث التي تعالج هذه القضية

إنّ التعامل مع تجربة الرسول السياسية، باعتبارها تجربة راقية لتخليق السياسة والدولة، تنجينا من آفات القراءات الكلاسيكية التي عرضنا لبعضها في ثنايا الفصل، والتي تقع بالضرورة في تديين التاريخ، وذلك من خلال توسيع مفهوم السُنّة على حساب التاريخي في تجربة الرسول، الشيء الذي يؤدي إلى صدام بين الطرفين، ويضطر هذا التعارض القراء الكلاسيكيين إلى التدخل لحل الإشكالية من خلال آليتي النسخ والتخصيص.إنّ اختلاف أقوال النبي وأفعاله وتقريراته أمر عادي من الناحية التاريخية، كما يرى الباحث، بالنظر إلى إنسانية الممارسة السياسية والتاريخية للرسول، غير أنّ هذا الاختلاف من الناحية الدينية والفقهية يثير إشكالات لا حصر لها، والحل الذي تقترحه لهذه المعضلة هو القراءة الكلية التي حاولنا تطبيقها جزئياً.على الرغم من قصر مدة الخلافة الراشدة، مقارنة بمُدد الدول التي أعقبتها، وانشغالها الكبير بشؤون الدعوة والفتوحات، فإنّها نجحت في تنزيل الأصول السياسية للإسلام تنزيلاً تاريخياً، بعد طور التبلور في المدينة المنورة، بقيادة النبي، بل الأكثر من هذا أنّها ساهمت في إتمام المهمة السياسية للنبوة التي بقيت بحاجة إلى البُعد التاريخي، إضافة إلى البُعد الديني. فإذا كان النبي بيّن أصول الاجتماع السياسي الإسلامي ومبادئه، وأقرّها عملياً، استناداً إلى سلطته الروحية، باعتباره رسولاً من رب العالمين، فإنّ الخلفاء من بعده امتثلوا لهذه الأصول، وأقرّوها، استناداً إلى سلطة سياسية - تاريخية، وباعتبارهم آدميين، الشيء الذي أدى إلى ((أرخنة)) هذه الأصول، أي جعلها تاريخية، بعدما كانت في طور النبوة أصولاً دينية صرفاً. كما شهد عصر الراشدين تطبيقاً واسعاً، كما يؤكد أمحمد جبرون لـ ((أصول الاجتماعي السياسي الإسلامي)) (البيعة والعدالة والمعروف)، وتكشف عن اختلافات وتباينات كبيرة بينها، وهو ما عكس مرونة هذه الأصول الكبيرة، وقابليتها للتكيف مع الأوضاع والأحوال التاريخية المختلفة. فعلى سبيل المثال، تنوعت طرق البيعة وأشكالها بحسب الخلفاء؛ فبيعة أبي بكر اختلفت عن بيعة عمر، وبيعة عمر اختلفت عن بيعة عثمان...إلخ، والشيء نفسه يُقال عن العدالة والمعروف في عصرهم. كما أن اجتهاد الخلفاء الراشدين الحُر في تنزيل ((أصول الاجتماع السياسي الإسلامي))، ومراعاتهم الشديدة للأحوال الُمحيطة بهم يدلان دلالة قاطعة على مدنية الممارسة السياسة في الأطوار الأولى من التاريخ الإسلامي.وقد حاول الخلفاء الراشدون في أثناء مدة حكمهم، كما يقول الباحث جبرون، تنزيل الإسلام تنزيلاً تاريخياً، بعد ما نُزّل دينياً تحت نظر الرسول. ولم تكن جميع التعديلات والاجتهادات التي أقدموا عليها بحكم التاريخ وتغّير الأحوال لتنأى بهم عن مغزى رسالة الإسلام السياسية وجوهرها الأخلاقي، وبالتالي كان كل بُعد عن ظاهر الشريعة أو سُنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في عصرهم، هو في العمق تماهٍ وقرب شديد من روح الإسلام ومقاصد شريعته.يرى المؤلف جبرون أن الدولة في المجال الإسلامي المتكوّن حديثاً - وفي ذلك الزمان المبكر من تاريخ الإسلام- كانت مقتضى سياسياً حيوياً استوجبه الانتماء الديني الموحد للجماعة، وحالة الحرب (الفتوحات) مع الجوار غير الإسلامي في ناحيتي الشرق والغرب، وخصوصية النظام القانوني الإسلامي... إلخ. وتُعتبر دولة الخلافة الترجمة السياسية العفوية، والتلقائية لهذه المقتضيات، غير أنّ التحديات الجسيمة التي واجهت دولة الراشدين والأزمات المتوالية/ الدورية التي عاشتها من جهة، والضرورة الملحّة لاستمرار الكيان السياسي الإسلامي من جهة ثانية، أكرهت هذه الدولة على الاستسلام لسنن التاريخ وقوانينه، والتخلي عن عفويتها ومثاليتها التي طبعتها في عصر الراشدين، والتي تسببت لها في معاناة كثيرة وأَسلَمَتها للفتنة.

ومع تزامن هذا التطوّر على مستوى الدولة الإسلامية كما يرى الباحث، مع تحولات حضارية كبرى شهدها المحيط الإسلامي، متجسدة بشكل ملموس في بروز قوى سياسية وعسكرية جديدة على مسرح الحوادث العالمي، باسطة هيمنتها على مجالات حيوية إسلامية، خصوصاً الشواطئ والبحار المحيطة بالممالك الإسلامية في شرق العالم الإسلامي وغربه، مُعطلة بذلك مفعول المعادلة التاريخية والسياسية التي كانت وراء نشأة الدولة الإسلامية وتجددها الدائم.

غير أنّ هذا الجهد التحديثي الذاتي الذي انخرطت فيه مُعظم الشعوب العربية والإسلامية في المشرق والمغرب، حيل بينه وبين نتائجه، ولم تُترك للجماعة الإسلامية فرصة استكمال بناء نموذجها السياسي المستقل، بحيث تدخّل الاستعمار الأجنبي بقوة وعنف، وصادر جهد التحديث الذي راكمه المسلمون من مدة، وألحقهم قسراً بنموذجه السياسي من دون مراعاة حقيقية وجدية لخصوصية الاجتماع السياسي الإسلامي. وقد أدى هذا الإلحاق القسري إلى توترات ثقافية واجتماعية وسياسية حادة، ما زال بعضها مستمراً إلى الآن على الرغم من مرور وقت ليس بالقصير على رحيل الاستعمار عن بلاد العرب والمسلمين.

إنّ الفرضيات التي انطلقنا منها انطلق منها الباحث كما يقول، تسمح لنا بالجواب عن هذا السؤال بالإيجاب، ويكفي في هذا الباب الاتصال بمخاضات الحداثة في الفكر السياسي الإسلامي قبيل كارثة الاستعمار، والبناء عليها لتمييز مفهوم الدولة الإسلامية في الواقع، أو على الأصح لتمكين الرأي العام الثقافي العربي- الإسلامي من "جهاز كشف" يسمح له برؤية الدولة الإسلامية على أرض الواقع. ومن الحقائق أيضًا التي نعلمها يقيناً اليوم كما يؤكد المؤلف، أنّ هذا المسار "التقنين" أُوقِفَ، وفي أحسن الأحوال اقتصر على مجال الأحوال الشخصية ولم يتعدّها إلى غيرها من المجالات، واستُبدل النهج الإصلاحي القائم على "تقنين الشريعة" أو وضعنتها، بنهج تغريبي قائم على اقتباس القوانين الغربية ونقلها. وقد ساهم الفاعل الاستعماري بقوة في هذا الانحراف، ونتيجة لهذا التطور ظهرت مجموعة من الحركات الإسلامية التي عملت بحماسة من أجل العودة إلى الشريعة ـ الدِّين، وطالبت بتطبيق الشريعة، وهو ما كان متجاوزاً في نسق الإصلاحية العربية..لكن دخول الاستعمار على الخط، وانفصال الاهتمام بالمعروف في دولة ما بعد الاستقلال عن جذره الإصلاحي من ناحية، وإهمال الوظيفة الدينية على صعيد هذه الدولة من ناحية ثانية، كل ذلك أحدث لأصل المعروف أزمة أخلاقية، كان أبعد ما يكون عنها بالنظر إلى مؤيداته الشرعية والحاجة الوقتية إليه، وأمسى في نظر الكثيرين وكأنّه غير مقصود شرعاً، وحقروا الانشغال بتحصيله.

تعليق عبر الفيس بوك