أزمة المثقف العربي مع اﻷزمة السورية

عبد الملك السيابي

المُثقف هو ذلك اﻹنسان الذي يعول عليه المجتمع والأمة كلها في اﻹصلاح والتقدّم الحضاري فإنّه بنور العلم والمعرفة والفكر المستنير يكون موجهاً وقائداً لسفينة اﻹصلاح ونهضة الأمة.. أما أن يتحوّل المثقف إلى بوق يطلق صيحات (راديكالية) ويستميت في الدفاع عن المستبدين ويلعن خصومهم فهذه كارثة .. ونحن لدينا بعض الكتاب الذين يملكون أسلوبا لغويا جميلا وعبارات رائعة تأخذ باﻷلباب.. ولكن للأسف ينقصها سُّمو الهدف وعلو المقاصد .. ثم تفتقر للإنصاف والموضوعية ومراعاة مسؤولية الكلمة ووضع الكلمات في مكانها الصحيح بعيداً عن التأثر باﻷهواء والنزعات واﻷمور العاطفية التي تجعل الكاتب يبتعد عن الموضوعية فإذا بمقالاته لا تقف على قاعدة متينة مبنية على الحقائق والبراهين .. وإنّما مجرد عرض آراء متأثرة بمؤثرات وجهتها وجهة معينة تتفق مع ميول الكاتب . ومن حق الكاتب عرض وجهة نظره لا حرج في ذلك أبداً .. لكن المراد أن تكون وجهات نظره مقنعة بما تحويه من تحليلات سياسية لا تنفصم عن القواعد الأساسية المتفق عليها بين البشر ..

ولندخل في صلب الموضوع ونضرب اﻷمثلة : ما زال بعض الكتاب الذين نتابع مقالاتهم في صحفنا يتحدثون عن القضية السورية من وجهة نظرهم فقط باعتبارهم مع القوميين فنجدهم يرددون نفس عبارات حزب البعث، وبتمحيص حديثهم نجدهم يدورون حول ثلاثة محاور: ينددون بـ (الإرهابيين) وكأن كل الثوار إرهابيين، وأن الثوار يحاولون إسقاط النظام (الشرعي) ، وأن هناك (مؤامرة أجنبية) من آل فلان ودول عربية وأجنبية وقنوات إعلامية .. إلخ . لنلقي نظرة على هذا الطرح لنرى هل يستند على قاعدة متينة من الحقائق والنظرة الواقعية؟ أم هو مجرد نظرة سطحية وميول للكاتب وتعصب يحاول أن يجرنا مع تحزبه واتجاهاته وربما هو نفسه في قرارة نفسه غير مقتنع بما يقول..؟

لا نستعجل الحكم .. ولكن نواجه تلك الأقوال بالحقائق:

أولا: وصفهم لكل المعارضة السورية بالإرهابيين، هل هذا وصف مُنصف ودقيق وعلمي ويتفق مع الواقع؟ أم أنه اتهام رمي جزافاً؟ ويدخل بذلك في معمعة الشتائم وبعيد عن الطرح العلمي. ماهي المعايير المعتمدة لتعريف اﻹرهابيين؟ الذي نعرفه ويعرفه الجميع أنّ معظم المعارضة المسلحة تقاتل عسكريين مسلحين بأشد الأسلحة فتكاً من جيش النظام؛ وليس موظفي الخدمة المدنية ولا عمال النظافة ولا موزعي الورود!! بل العكس جيش النظام هو الذي أباد مجموعات كبيرة من البشر بأطفالهم ونسائهم وشيوخهم وعسكريين ومدنيين ولم يفرق بين أحد منهم مستخدماً كل ما توفر لديه من أدوات القتل والتدمير الجماعي بما فيها أسلحة الدمار الشامل!! فلماذا لا يوصف بالإرهاب؟! بينما يتهم به ضحاياه ! وهل كل حركة ثورية شعبية اضطرت لحمل السلاح لانتزاع حقوقها وللدفاع عن أبنائها وتخليص وطنها من مستبدين يئست من إصلاحهم بالطرق السلمية .. تعتبر إرهابية ؟! إذن ما أكثر إﻹرهابيين في العالم .. وعليه فكل الشعوب العربية التي ناضلت من أجل حريتها واستقلالها قديماً وحديثاً ضمن قائمة الإرهابيين بما فيها الشعب التونسي والمصري والليبي واليمني، فلو فعلت جيوش هذه الدول ما فعله الجيش السوري لفعلت شعوبها ما فعله الشعب السوري وليبيا خير دليل .. ثم إنّ اﻷنظمة المستبدة نفسها وصلت إلى السلطة بالانقلاب العسكري وشقت طريقها نحو السلطة خلف فوهات البنادق وقتلت من انقلبت عليه... فلماذا لم تصنف ضمن قائمة الإرهابيين؟ كما أنّ المعارضة تضم أطيافاً كثيرة من الشعب ففيهم معتدلون ومثقفون ومفكرون ومن مذاهب وأديان مختلفة.. فلماذا يحكم على الجميع بحكم واحد؟!

ثانياً : يصف بعض الكتاب العرب النظام السوري بالشرعي، فهل هذا وصف دقيق؟ ما هي معايير الشرعية التي تجعل الحاكم شرعياً؟ وما هي المعايير الدستورية والقانونية للشرعية؟ هل درس هؤلاء الكتاب كل ذلك وتوصلوا إلى النتيجة الحتمية بالشرعية؟ أم هي رغبة الكاتب ووجهته باعتبار النظام يعتنق نفس فكر الكاتب وحماسه القومي؟ فكان وصف الشرعية جاهزا بلا تكلف ! إذا كان ذلك من حقه فينبغي أن يحتفظ به لنفسه ولا يجوز أن يطرحه على القارئ على أنّه من المسلمات والقطعيات! وهل بعد كل أعمال القتل والتدمير يصح الحديث عن شرعية؟!

أم أنّ رئيس الجمهورية الذي يفصّل له الدستور على مقاس مواصفاته هو شرعي بالضرورة ولا يحتاج اﻷمر إلى بحث ؟! هل يعتقد المثقف ذلك ويقول به عن قناعة..؟ ! أعتقد لدى بعض مثقفينا أزمة مصداقية تذوب لصالح الحميّة والتحزب فلا هم مع الشرعية ولا مع العقل ولا مع القانون ولا مع الممارسات المعاصرة للديمقراطية! ومن المؤسف يكون المثقف بعيدًا عن كل ذلك فماذا ترك للجاهل؟!

ثم إنّ هؤلاء سرعان ما نقضوا مواقفهم فبينما هم يستميتون في الدفاع عن النظام المستبد وقبل أن يجف مداد قلمهم إذا بهم فجأة يستميتون في الدفاع عن المنقلبين على النظام في اليمن! وعند المقارنة نجد النظام اليمني الذي جاء عبر عملية توافقية برعاية دولية ورضا شعبي ﻹنهاء اﻷزمة اليمنية لا مجال لمقارنة شرعيته بمن ورث الرئاسة وفرض بالحديد والنار..! فكيف يرضى الكاتب المثقف بطرح مثل هذه التناقضات العجيبة؟! التي يربأ من له عقل بنفسه عنها .. وهذا يؤكد أن القضية استعراض أهواء وأمزجة وليس حقائق وبراهين وينبغي أن يترفع الكاتب عن ذلك ويحافظ على مصداقيته. فنحن نريد الحقائق وليس معرفة الأهواء المجردة. ومن التناقضات العجيبة أنني قرأت في هذه الصحيفة مقالاً ﻷحد الكتاب المعروفين ينتقد فيه بشدة إمام منى الذي طعن في الحوثيين! بينما قرأت لذلك الكاتب نفسه مقالات يطعن فيها بالمعارضة السورية ويصفها كلها بالإرهابيين مع أنّهم أغلبية في سوريا!! فلماذا حلال لكم وحرام على غيركم؟! ثالثاً: النقطة الثالثة التي ذكرناها في مقدمة المقال هي أنّ كثيرًا من الكتاب اندفعوا نحو نظرية المؤامرة لتشويه الحراك الشعبي وتعمدوا إغماض العينين عن الوضع الداخلي للدولة وما فيه من فساد كبير وتخلف وقمع واستبداد ومآسٍ كثيرة يطول ذكرها .. وحاولوا إخفاء كل ذلك واختزال القضية في مؤامرة خارجية!! فالوضع في البلد على ما يرام ولا توجد مبررات للتغيير واﻹصلاح واﻹنسان يتمتع بكافة حقوقه .. ! لكن جهات خارجية لا تريد ذلك وقناة تلفزيونية لعبت بالشعب وساقته للموت ..! أعتقد أنه استخفاف بالشعوب واستغباء للقراء ... فكيف نقبل أن شعبًا عريقًا مثقفًا قدم التضحيات الكبيرة بسبب قناة فضائية ضحكت عليه !! لو كان الشعب يعيش الحياة الطيبة ويشعر بالعدالة تحت مظلة دولة المؤسسات .. فلو جئته بمليون قناة لتضحك عليه للعنها وحذفها من جهازه إلى اﻷبد .. فهو أدرى بما في بلده . فالقضية أوضاع سيئة واستبداد وقمع واستبعاد وفتنة وفساد .. هذه التي تحرك الشعوب وليست رغبات آل فلان وقناة فلان وسائر (العربان) ! ولسنا نقدم معلومة جديدة لكتابنا فهم أدرى منّا بذلك ولكن ((وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا ... اﻵية)) وهذا غير مقبول شرعاً وعقلا .. ثم إنّهم هنا تناقضوا أيضاً فبينما يلعنون التدخل اﻷجنبي لصالح المعارضة يرحبون به بقوة لصالح النظام!! والدول والحركات الطائفية المسلحة التي تداعت من عدة جهات ورمت بثقلها لصالحه لم تكن في مرمى قذائفهم ولم يصبها شيء من قاموس شتائمهم التي وجهت لمن يؤيد المعارضة .. أما التدخل الروسي اﻵن فقد رقصوا به فرحا وغنوا به طربا..! وقد أثاروا ضجة حول الهجوم اﻷمريكي اﻷجنبي ضد قطر عربي والذي لم يحدث .. فإذا بهم اﻵن يحدثوننا بفخر وخيلاء عن بطولات روسيا وصولاتها في القطر العربي نفسه وهم فرحون بسفك الدم العربي الذي تباكوا عليه حتى أبكونا معهم ! ومن الملاحظ والمؤسف أن معظم الكتاب لا يتحدثون عن مقترحات واقعية لحل الأزمة بمنهج وسطي ليس فيه إقصاء ﻷي طرف .. ولا ينددون بالعنف من الطرفين ولا يعلنون رفضهم للقوة المفرطة التي لا تبقي ولا تذر ولا تفرق بين مقاتل ومدني ولا بين صغير وكبير .. بل كل همهم تلقين الصبيان شرعية الطغيان ! وأن الشعب كله إرهابي ويجوز للنظام أن يفعل بهم - وحتى بأطفالهم - ما يشاء بأبشع طرق القتل والتنكيل والتدمير .. وعلينا ألا نرى إلا هذا الرأي وحده ..! استبداد فكري يسوق لاستبداد سياسي . كذلك نجد التركيز على الجانب القومي الراديكالي وحده مع اﻹعراض عن كل الجوانب الدينية والعقلية واﻹنسانية والخلقية والدستورية والقيم الحضارية. ورضي بعض المثقفين ﻷنفسهم أن يكونوا مع أكثر اﻷنظمة دموية وقسوة وهمجية! المثقف العربي يُريد أن ينظر بنصف عين حتى لا يرى إلا جانبا واحداً وهو الجانب القومي الراديكالي .. إنّه مستعد ليقف مع الرئيس فوق جثث أطفال العرب ليردد: لبيك يا علم العروبة كلنا نحمي الحمى ... !! وفي العصر الذي يسارع فيه مفكرو الدول لترسيخ قيم العدالة والديمقراطية يسارع بعض المفكرين العرب لزرع فكرة أن رئيس الجمهورية شرعي! ومعارضوه كلهم إرهابيون ليس لهم وﻷطفالهم إلا القتل الجماعي !! إنّ أمة يُفكر مثقفوها بهذه الطريقة ولا ينطقون إلا بمثل هذه العجرفة .. أمة فاشلة لا نطمئن على مستقبل أجيالنا فيها .. ألا فلنراعي أيها اﻹخوة مسؤولية الكلمة ونحترم العقول ونخاطب الناس بالحقائق ونقنعهم بالبراهين والكلام الواقعي .

تعليق عبر الفيس بوك