تداعيات تشرينيَّة

فؤاد أبو حجلة

أكتبُ في اليوم الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر)، وهو اليوم الذي يحمل في ساعاته الكئيبة ما يذكرني بالفجيعة على المستويين الوطني والشخصي، فاليوم يصادف الذكرى الثامنة والتسعين لوعد بلفور المشؤوم الذي كان أساسا لضياع فلسطين وتمكين يهود أوروبا -ومن ثم يهود العالم- من إقامة وطن قومي لهم في فلسطين على حساب أهلها من أجدادي الكنعانيين. اللعنة على بلفور وعلى من وعدهم بالوطن المسروق.

واليوم يعني بالنسبة لي الذكرى التاسعة والعشرين لاعتقالي في دولة عربية بتهمة التورط في حب فلسطين. أذكر ذاك اليوم بكل قهره، وأستعيد لحظات مرعبة كانت فيها يداي مقيدتين وعيناي معصوبتين، وأنا مقتاد إلى غرفة التحقيق في مبنى الجهاز الأمني المكلف بحماية أمن الدولة، والذي يطل على البحر وكأنه منتجع سياحي أو سياسي فاخر.

كنتُ مُستسلما للدهشة وأنا أستمع إلى أسئلة المحققين الذين اعتبروني خطرا على الدولة وعلى أمنها. وكانوا يخاطبونني وكأنني كائن قادر على تخريب البر والبحر وتدمير الحياة المسترخية على رمال الشاطئ النائم، تحت شمس حارقة تلفح الروح بوهجها وتحول البلاد إلى فرن عملاق.

قلت لهم إنني بالكاد أستطيع أن أشكل خطرا على ذبابة تصر على أن تحط على أنفي، لكنهم لم يصدقوني.

قلت أيضا إنني لا أكره أحدا غير الذين سرقوا شاطئي المتوسطي في بلدي المخطوف من الجغرافيا ومن التاريخ، ولم يصدقوني.

أقسمت لهم أن قلبي هناك على رصيف ميناء يافا، فسألوني عن نواياي تجاه مينائهم.

قلت أشياء كثيرة لم يصدقوها، وقالوا أشياء كثيرة صعبة التصديق ومنها حرصهم علي وعلى عائلتي وحبهم لفلسطين!

في الليلة الأولى في الزنزانة، كنت أحيي ذكرى وعد بلفور بالهواجس والهذيان الذي هيأ لي أن من كان يسألني في غرفة التحقيق هو بلفور شخصيا.

بصراحة، أنا لا أعرف بعد تسعٍ وعشرين سنة من تلك الليلة الكئيبة إن كان بلفور موجودا حقا في غرفة التحقيق أم أن ما قادتني إليه الهواجس كان مجرد وهم.

لا بأس، فأنا أكتشف الآن أن بلفور لم يمت، وأعرف الآن أنه موجود في كل غرف التحقيق في وطن عربي يزهو بالسجون، وفي كل مطارات الدنيا وموانئها، وهو القبطان المناوب لكل سفن الموت المحشوة باللاجئين العرب الذين يفضلون الدفن في أعماق البحار على السكن في مقابر المدن المنذورة للموت.

أعود إلى تشرين الثاني (نوفمبر)، هذا الشهر الذي تيتمت فيه ثلاث مرات. مات أبي في اليوم التاسع عشر من شهر الحزن، وماتت أمي في السابع عشر من ذات الشهر بعد ثمانية عشر عاما، ومات من أحببت حد الموت "ختيارنا الذي في السماء" في الحادي عشر من هذا التشرين، فاكتمل يُتمي الأبدي.

يا الله كم أنت موجع أيها التشرين الثاني. يا الله كم أنا حزين ومحبط ومقهور في أيامك الدامعة بالفقد وبالفجيعة.

لا أعرف كم مرة سألتقيك بعد هذا اليوم، ولا أعرف إن كنت أصلا سألتقيك مرة أخرى، لكنني أعرف أنني لا أحبك، فامض سريعا واذهب لكي يجف دمعي، ولكي أعيش وأدفيء ذاكرتي ببعض النسيان.

أقول اذهب، فأنا لا أحب خداعك بالمطر قبل الشتاء، ولا أحب مكرك بشمس الخريف.

أريد أن أعيش بلا تشرين الثاني، وأريد شتاء واضحا خاليا من الالتباس، وكانونا صارخا بصوت الرعد.. وأريد مطرا يغسل القلب، ويغسل الدمع الذي تسيله ذاكرة تشرين الثامن والتسعين وتشرين التاسع والعشرين.. وتشرين الحزين.

تعليق عبر الفيس بوك