عندما يتم الاعتراف والاعتذار بانتهازيّة

علي محمد فخرو

أن يعترف ومن ثمّ يعتذر شخص إلى شخص آخر بسبب ارتكابه جريمة أو أذى بحقّه، وأن يقبل الأخير الاعتذار ويمارس فضيلة المسامحة والعفو تجاه من تسبّب في إيذائه، فهذا أمر فردي محمود يتمُّ بإرادة المعتدي والمعتدى عليه بحرية وبتفهُّم ندّيٍّ متبادل من قبل الاثنين.

هذا شيء، واعتراف ومن ثم اعتذار شخص تسبَّب في إيذاء الملايين من البشر وجرح وقتل مئات الألوف منهم، هو شيء آخر. إذ لن توجد جهة أو جماعة مخوّلة قادرة على التحدُّث باسم كل الضحايا، وبالتالي قبول أو رفض الاعتذار.

من خلال هذا الفرق الهائل بين حالتي الاعتراف والاعتذار السّابقتين يجب الحكم على الاعتراف الجزئي العبثي المقتضب المتلاعب بالكلمات لرئيس وزراء بريطانيا السّابق بشأن دوره الشخصي الإجرامي الانتهازي، وبالتالي دور حكومته وجهاز استخباراته ووسائل إعلامه، في إدخال شعب وجيش ومجتمع العراق في الجحيم الذي يعيشونه منذ عدة سنوات والذي سيعيشونه لعقود طويلة مقبلة.

طوني بلير مارس الكذب على نفسه وشعبه طيلة الاثنتي عشرة سنة الماضية عندما رفض المرة تلو الأخرى، في مجلس العموم البريطاني وفوق كل ساحة إعلامية ظهر فيها، رفض الاعتراف بأنه وحكومته وأجهزة استخباراته قد أجرموا بحق الشعب العراقي وأمة العرب عندما ساهموا في حملات الكذب الإعلامية بشأن امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، وعندما وعدوا الأميركيين سرًّا، ومن وراء ظهر مجلس العموم والرأي العام البريطاني، باستعدادهم للمشاركة الكاملة في عدوانهم الهمجي لاجتياح العراق، وتمزيقه إرباً، وتدمير كل مقوّمات الحياة في ربوعه، وتهيئته لحروب طائفية وعرقية، تؤدّي إلى تجزئته وإخراجه من التاريخ والجغرافيا والحضارة.

بدلاً من الاعتراف تباهى طيلة تلك السنوات بقيامه هو وصديقه جورج بوش الابن بقيامهما بدوري مخلّصي الشعب العراقي من استبداد طاغية من جهة، وبنقل العراق إلى نظام ديمقراطي تعدُّدي من جهة أخرى.

بعيدًا عن تفاصيل أخطاء وخطايا وآثام وكذب وانتهازية الاثنين وحكومتيهما واستخباراتهما المتآمرة اللاأخلاقية، فقد فصّلت في كتب وتقارير كثيرة منشورة ومذاعة، دعنا نعلق على «اعتراف» طوني بلير من زوايا عربية وبمعايير عربية قومية.

أولاً - هذا اعتراف مبهم بارتكاب أخطاء مبهمة، واعتذار إلى نفسه وإلى شعبه لارتكاب تلك الأخطاء، ويقول بعض المحلّلين الإنجليز إن اعترافه بارتكاب أخطاء في تقدير الموقف في ضوء المعلومات الخاطئة التي أعطيت له آنذاك، قد قصد منه حماية نفسه من وجهة قانونية، وذلك قبل أن يصدر التقرير الرسمي للجنة كوّنت منذ ست سنوات لتنظر في ملابسات تورُّط بريطانيا في غزو العراق، والتي قد تعتبر أن ما قام به طوني بلير بالتنسيق مع جورج بوش كان تآمراً تلفيقيّاً معدّاً له قبل اجتياح العراق بسنة على الأقل، والواقع أن الاعتذار لم يتوجه مباشرة إلى ملايين الضحايا من شعب العراق بالاسم وبدون مواربة ولا التفاف حول الموضوع، وعليه فإن شعب العراق غير معني ولا ملزم بقبول هذا الاعتذار الغامض المراوغ.

ثانياً - إن العرب، وخصوصاً عرب العراق، يجب أن يوكلوا إلى الجامعة العربية البدء في الحال النظر في إمكانية رفع الأمر إلى المحاكم الدولية، باعتبار أن كل المعطيات تشير إلى ارتكاب طوني بلير وجورج بوش سلسلة من الجرائم الإنسانية التي تحرّمها القوانين الدولية وتعاقب مرتكبيها، وباعتبار أن الرّجلين يكذبان عندما يحاولان حصر الأمر في سوء فهم وأخطاء في التقدير. إن دم الألوف وعاهات مئات الألوف ودموع الملايين من العراقيين تصرخ مطالبة بالعدالة.

ثالثاً - إن بعض الأنظمة العربية التي وجّهت في الماضي الدعوات إلى طوني بلير لإلقاء المحاضرات ودفعت له مكافآت مالية خيالية، أو التي عيّنته مستشاراً في حقلي الاقتصاد والعلاقات العامة، أو التي تفكّر في تعيينه مستشاراً في المستقبل، أو التي قبلت أن يكون عضواً في الرباعية الدولية المناط بها متابعة الموضوع الفلسطيني، يجب أن توقف التعامل مع هذا الرجل الذي من فمه ندينه، وأن تقرّر أن لن يكون له ولا لجورج بوش ولا لديك تشيني ولا لرمسفيلد ولا لأمثالهم من الذين يقطر من أياديهم دم الضحايا العراقيين أي مكان في وطن وحياة العرب في المستقبل.

رابعاً - إن تاريخ تعامل بريطانيا مع أمة العرب تاريخ أسود. لقد وعدت العرب بالاستقلال إن وقفوا مع الغرب ضدَّ الخلافة العثمانية ثم نكثت وعودها، بل إنها دخلت شريكة مع فرنسا في توقيع معاهدة سايس - بيكو التي جزّأت شرق وطن العرب ووأدت حلمهم القومي الوحدوي.

وبعدها أضافت جريمة إصدار وعد بلفور الذي جاء بجحافل الصهيونية إلى أرض فلسطين العربية وشرّد أهلها، وها هو رئيس وزرائها السابق يعترف بارتكاب بلاده جريمة غزو وتدمير العراق، وقتل وتهجير شعبه.

والسؤال: إلى متى سينسى العرب تلك الجرائم، ويتعاملون مع الدولة التي ارتكبتها بمنطق الردّ المعاقب العادل للأذى الذي ينخر في جسد هذه الأمة حتى يومنا هذا؟

مناسبة اعترافات بلير يجب ألا تمرَّ كحدث فردي عادي، إنها مناسبة لفتح الملفّات التي يغطّيها الغبار وتأكلها حشرات الهوان على النفس العربية.

تعليق عبر الفيس بوك