ثقافة التطوع رديف المواطنة

رحاب أبو هوشر

شراكة الأفراد/ المواطنين للدولة في خدمة مجتمعهم، سمة أساسية من سمات الحياة المدنية. والمجتمعات المتقدمة قطعت شوطا كبيرا في التزام الفرد والجماعات ومؤسسات القطاع الخاص فيها، بالمساهمة في خدمة المجتمع، من خلال المبادرات المؤسسية، والعمل التطوعي في كافة نواحي الحياة، حتى صار يمثل ثقافة سائدة هناك، تعكس انتماء الفرد لمجتمعه، وحسه بالواجب تجاه مقدراته وموارده ومستقبله، بل واتسعت لتعبر عن حس إنساني عام خارج الحدود.

بدأنا نلحظ تناميا لحس مجتمعي، يمكنه إذا ما اتسع واستمر، أن يبلور ويؤسس وعيا جديدا تجاه مفهوم التطوع، والإيمان بضرورة المشاركة في خدمة المجتمع، ساهمت فيه عدة مؤثرات، منها الاحتكاك بتجارب العالم والاطلاع على ثقافات شعوبه، والانفتاح الإعلامي الكبير، وكذلك دور نسبي لحضور مؤسسات المجتمع المدني وأنشطتها، كالمؤسسات الثقافية والنقابات المهنية والجمعيات الخيرية، أما أهم المؤثرات فكانت مبادرات قام بها أفراد مثقفون ومؤسسات أعمال خاصة، أرست نموذجا طليعيا مؤثرا، أصبح بما حققه من أثر، حافزا للمزيد من المبادرات والمبادرين. وبينما انبثقت ثقافة التطوع في المجتمعات المتقدمة من منظومة قيم مدنية كرستها دولة المواطنة الديمقراطية، نجد أن ملامح تلك الثقافة لدينا نتجت لأوضاع معاكسة، أي لغياب دولة المواطنة التي تحقق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، وأحيانا لتفكك الدولة وتخليها عن واجباتها الأساسية تجاه المجتمع. تفشى الفقر وأصبح معضلة أساسية، ويليه في الأزمات، الإهمال الرسمي المزمن للثقافة. في مواجهة أزمتي الفقر والثقافة على وجه التحديد، كان لا بد من جهد مبادرين، يملكون من الوعي والقيم الانسانية المدنية، ما جعلهم يؤمنون بواجبهم تجاه مجتمعهم، وتطوعوا لمحاربة العتمة وإن بدت جهودهم شموعا لن تبددها مرة واحدة.

نحتاج أن تستمر وتتسع مبادرات شركات القطاع الخاص والبنوك في دعم الثقافة، وتشجيع الشباب على البحث والإبداع، عبر رصد جوائز للمتفوقين علميا، وفي إقامة مسابقات للشباب في الأدب وتمويل إصداراتهم، أو المساهمة في تمويل تجارب السينمائيين، أو تخصيص جزء من الأرباح لإقامة مؤسسة ثقافية دائمة تهتم بالموسيقى والتشكيل، أو في تمويل وإقامة فعاليات ثقافية وفنية مستمرة.

وفي الآونة الأخيرة، ظهرت عدة أفكار تطوعية لافتة، بادر إليها نخبة من الأفراد المثقفين للمساهمة في تشجيع القراءة، دعما للثقافة في المجتمع. ولتجاوز إشكالية ارتفاع أسعار الكتب، أقيمت عدة معارض للكتب المستعملة في الأردن ولبنان والبحرين، بعد أن تم جمعها من متبرعين، على أن تكون معارض متنقلة، حتى تتاح لأكبر عدد من الناس في مناطق مختلفة. وهناك عديد من المثقفين تنبهوا لفكرة التبرع بمكتباتهم الخاصة للمكتبات العامة، لكي يمكنوا عموم المهتمين من الاستفادة منها، بعد أن انتهوا منها، أو بعد أن وظفوا إمكانيات الشبكة العنكبوتية واحتفظوا بمكتباتهم إلكترونيا.

المشردون والفقراء كانوا دائماً موجودين في المجتمعات المتقدمة، كنتاج لمفاهيم وآليات نظام رأسمالي واقتصاد صناعي، وليسوا نتاج فساد، ونهب منظم للثروات، وتخلف اقتصادي. هناك يتعامل المجتمع معهم وفق ثقافة العمل الخيري. جمعيات تطوعية خيرية تؤمن لهم الطعام والمساعدات، وتبقى نسبتهم مهما ارتفعت لا تقارن بنسب الفقر المتفاقم في بلداننا، مع غياب لأفق الحلول الرسمية وعشوائية الخطط، ما استدعى خلال سنوات قليلة ماضية، مبادرات تطوعية عديدة، لإقامة بنوك للطعام، تقدم وجبات يومية لجياع بالآلاف، وبنوك للملابس لآلاف من الأسر التي لا تملك ثمن ملابس لأبنائها، ويعمل في هذه البنوك عدد كبير من المتطوعين، مؤسسات وأفراد، من مختلف الشرائح. المبادرات التطوعية موجودة، لكنها متقطعة، معزولة أحيانا وغير متراكمة، وتفتقر إلى أطر مدنية وثقافية دائمة، لتنظيم الجهود وتوجيهها، واستثمار قدرات الشباب ومهاراتهم، في قطاعات تطوعية عديدة.

النظافة العامة في الغرب تقع على عاتق المواطنين، فيقومون بجمع نفايات منازلهم، ويقتصر دور عامل النظافة، على المرور وجمعها من نقاط محددة، وفي اليابان تقوم الأسر يوميا بكنس وتنظيف محيط منازلها أيضا. لا يقومون بعمل تطوعي، بل إن نظافتهم مهمة لهم. أما نحن، فيمكننا القيام بدور تطوعي، إذا حافظنا فقط على النظافة العامة، ولم نلق بنفاياتنا في الشوارع! ما الذي يمنع قيام حملات تطوعية منتظمة، لتنظيف الشوارع والأحياء في المناطق التي تعاني من تكدس النفايات وقلة عمالها؟ فما زال التطوع أسير جدران جمعيات محدودة الأعضاء، بينما يستوجب تعميم ثقافته استهداف الفضاء الاجتماعي العام، لتجذير مفهوم خدمة المجتمع، وليقوم المواطنون بأدوار جدية وملموسة، في حماية البيئة والحفاظ على الطبيعة، وتشجير المناطق الجرداء، والمشاركة في أعمال الإنقاذ والإسعاف في الظروف الطارئة، أو أن يقوم أطباء بتقديم خدمات رعاية طبية تطوعية في المناطق النائية والفقيرة، وأن يشعر الجميع بمسؤوليتهم تجاه فئات بحاجة للدعم، بتنظيم زيارات تطوعية مستمرة، تخرج عن الموسمية والاستعراض، يقدم الناس خلالها الخدمات والتبرعات وحس المشاركة والتضامن، لفئات المجتمع في مراكز الأيتام ودور المسنين وذوي الاحتياجات الخاصة. مثل تلك الحملات، ستعمل على ترسيخ قيمة الانتماء، وصقل ثقافة التطوع، لتصبح خدمة المجتمع هدفا من أهداف الأفراد وخطط حياتهم.

تعليق عبر الفيس بوك