قصة البحث عن المعنى

ناصر محمد

يمكن أن يُعرّف الإنسان على أنّه كائن باحث عن المعنى، فهو ليس مجرد حيوان ناطق هدفه البحث عن حقائق الأشياء، فليست كل الحقائق جيدة، بل ربما أغلبها يبعث على اليأس مثل الموت والفناء والفقد، وربما تكون هذه الحقائق أقلّ وطأة إذا تم إدماجها ببعض المعتقدات مثل الدين الذي يجعل من الموت جسرا إلى الخلود والسعادة الأبدية! ولكن حتى هذه المعتقدات قد لاتصمد حين يتم اكتشاف أسباب ألم الإنسان الجسدية والنفسية ومعالجتها دون استجداء علوي، وحين يتم تفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية بطريقة علمية دون حاجة إلى عدالة سماوية مفارقة. هنا، يكون المعنى ناتجا من صميم الإنسان نفسه، فهل هو قادر على تحمل هذه التركة الثقيلة؟

مرّت البشرية في تاريخها بكثير من الخيبات وأزمات الشك في المعنى، ولكنها لم تكن متساوية في الخطورة، فالمراحل الشكية الأولى أي المرحلة التي تسبق القرن السابع عشر كانت مجرد استبدال نظام ميتافيزيقي بنظام شبيه له أكثر إقناعا، فالفلسفة اليونانية كانت ردة فعل على بنية الكون العشوائية وأدخلت النظام العقلي فيها، والمسيحية كانت هجوما على النظام العقلي وإرجاع الكون إلى سلطة الإله القاهرة، والمسيحية المتأخرة أدخلت النظام الأرسطي في اللاهوت معطية نوعا من الإرادة الإنسانية.

أما مرحلة الريبة العميقة فقد بدأت منذ أن دخل العلم في إعادة تفسير الكون بطريقة صادمة لكبرياء الإنسان، ويمكن تقسيم هذه المرحلة إلى ثلاث ريبات : الريبة الأولى التي بدأت من بداية القرن السابع عشر إلى نهاية القرن الثامن عشر، في هذه المرحلة تم غزو الطبيعة هندسيا من خلال الفرنسي "ديكارت" وكذلك معرفة قوانين حركة أجسامها من قبل الإيطالي "غاليلي" واتساع الكون اللامتناهي على يد الإنجليزي "نيوتن". كانت الطبيعة تخلي ساحتها من الأوهام التدخلية وتكشف للإنسان قوانينها الميكانيكية الجامدة، وكان العقل الإنساني طامحا إلى السيطرة على كل شيء وكشفه، وكان التشكيك بإرادة الإنسان الخيرة مثل الإنجليزي "هوبز" وعدم وجود أفكار فطرية مثل "جون لوك" وبطلان وجود أفكار مطلقة مثل "هيوم" هو هاجس العقل الأوروبي في تلك الحقبة، إلا أن عصر الأنوار في القرن الثامن عشر أعطى بعض النور والتفاؤل إلى الطبيعة من خلال الفرنسي "ديدرو" ومحبي الطبيعة والإنسانية الآخرين مثل نظيره "روسو" وأنصار العقل مثل الألماني "كانط" والفرنسي "فولتير"، كل هذه المحاولات أعطت بعض الثقة لوجود حقائق خارج معول الهدم البشري.

والريبة الثانية تبدأ من بداية القرن التاسع عشر إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، في هذه المرحلة كان هناك عزوف عن ميكانيكية الفكر وهيمنة العقل، وظهر تيار رومانسي يسخر من العقل وعجرفته، كما أن العقل واجه اكتشافات علمية جديدة صدعت قوانينه المتماسكة مثل نظرية "داروين" واهتزاز فكرة الإنسان الخارق، وكذلك تصدع القوانين الميكانيكية بالنظريات الفيزيائية النسبية التي تفسر حركة الأجسام ما تحت الذرية والفضائية بطريقة نسبية وكمية، كما أن فكرة الأنا المفارقة تم هزها بعلم التحليل النفسي الذي شطرها إلى نصفها الثاني "اللاوعي". في هذه المرحلة لم يكن هناك قوانين ثابتة يستند عليها الإنسان لتكوين معنى له والذي أدى به الوضع إلى نبذ الطبيعة والعقل والالتجاء إلى الإنسان كحالة "وجودية" وحصر المعنى لديه فيما يريد أن يكون وليس بما تريد له الطبيعة والعقل أن يكون! وتزعزع الفكر السياسي القديم المبني على الثقة بقوانين الطبيعة إلى الثقة بقوانين التاريخ التي يصنعها الإنسان نفسه من خلال الشيوعية التي كان ماركس منظرها الأكبر، وكان الإنسان الأعلى والمتفوق هي فلسفة النصف الأول من القرن العشرين والذي أعطى الإنسان أو القائد حق تقرير مصير الضعفاء من خلال الأنظمة الشمولية حتى تورّط العالم في أكبر مجزرة تاريخية في الحربين العالميتين!

لم يكن من بدّ أن ينتقل العالم إلى "اليقين الضروري" بعد الحرب العالمية الثانية، ذلك اليقين بعدم احتكار الحقيقة والتاريخ والقوة، اليقين بحق التعددية الدينية الثقافية والايديولوجية دون أي تطرف من أية فئة. ولكن هذه المراهنة بإمكانية تعايش هذه الفئات مع بعضها تحتاج إلى إعادة نظر في مرحلة "الريبة المعاصرة"، هذه الريبة التي بدأت بتصاعد الأصوليات الدينية والإلحادية على السواء، وكذلك ظهور أزمة الانتماءات خاصة عند المهاجرين إلى الغرب. إن هذه الريبة من انعدام المعنى أيقظت التمرد من داخل الإنسان باحثا عن حقيقته في هذه الحياة، وهنا تدخل شعارات حقوق الإنسان في تحدٍّ كبير مع القدر الإنساني الذي يخلق المعاناة رغما عن التسامح والسلام! ولا ينفك الروائي الكبير "دوستويفسكي" أن يذكرنا بأن الإنسان هو عدو النظام بشكل عام وأول هادم له.

لا نعلم كيف سيتجاوز الإنسان هذه الريبة الأخيرة ولكن نعلم أن الإنسان أيضاً هو الذي يبني لما يهدمه، ربما بنفس معول الهدم : البحث عن المعنى.

تعليق عبر الفيس بوك