الدبلوماسية العمانية

د. صالح الفهدي

إذا كانت السياسة -ضمن تعريفاتها الشهيرة- هي فن تحقيق الممكن، فإن أعظم الفضائل أن يكون هذا الممكنُ صادراً عن مبادئ راسخة. إذ ليس من الهين في عالم السياسة أن تحافظ الدول على المبادئ، حتى لتصبح أركاناً سميكةً ترفع سقف الدولة، ومناهج تصنع لها تاريخ أمتها، وما يتميز به شعبها من خصال.

حين أرى الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية، وهو يطأً مناطق الصراع الملتهبة، والحرب تدوي أصواتها من كل ناحية في الفضاء المحيط، فإنني كمواطن عماني أشعر بالفخر نحو الدبلوماسية العمانية. هذه الدبلوماسية التي اتصفت بالشمائل الأصيلة للشخصية العمانية التي توارثت خصائص محددة تتميز بها عن سائر الشعوب، كما لكل شعب فضائله ومميزاته. هذه الدبلوماسية وإن كانت قد استنارت بفكر نير لجلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- فإن الفلسفة العميقة إنما تمتد جذورها، وتستمد أصالتها من الشخصية العمانية التاريخية، ومن التاريخ العماني التليد.

لم تكن الدبلوماسية العمانية لتقوم إلا على قناعات عميقة بالمبادئ التي اختطت بها طريقها الذي غدا واضحاً للجميع، يقول جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه: "وكما هو شأننا في الالتزام بقيمنا ومبادئنا في رسم السياسات الداخلية وتنفيذها، فإننا لا نحيد عن المبادئ السياسية، والثوابت الأساسية، التي انتهجناها في مجال العلاقات الخارجية. فمواقفنا نابعة من قناعاتنا، وهي تعبر عن صدق توجهاتنا، ووضوح رؤانا، وواقعية تعاملنا مع مختلف القضايا والمشاكل الدولية والإقليمية".

وبناءً على هذه القناعات، فإنَّ الممارسة الميدانية -العملية- لا تقوم على عبارات خالدة، أو جمل تؤطر في البراويز، وإنما على مقومات ملموسة على الأرض ذات عمق فلسفي تشكل الأخلاق قاعدته الرصينة.

إحدى أهم فلسفات الدبلوماسية العمانية تقوم على السَّمت، وهو لغةً السكينة والوقار، وتلك خصائص الشخصية العمانية التاريخية. أمَّا السمت في الدبلوماسية العمانية، فقد تجَّلى في الإيقاع المضبوط لإدارة الأحداث، وممارسة فن الممكن وفق قاعدة الاحترام المتبادل للأطراف ذات الصلة؛ فالسمت أكسب السياسة العمانية التقدير ظاهراً أو باطناً، مما مكَّن رجالاتها من لعب دور الوسيط المرتضى في الخلافات العالمية، والحروب الدولية، والصراعات الإقليمية، والنزاعات الأهلية.

الاتزان في التعامل مع الأمور فلسفةٌ ظاهرةٌ في الدبلوماسية العمانية، وقد تجلى ذلك في النظر المعتدل غير المنفعل في القرارات نحو القضايا المعقدة، والمواقف المتباينة. التوازن في النظر، والفكر ينتج الحكمة، والتعقل، والقدرة على القراءة المتفحصة لبواطن الأمور، ومحركات الأحداث. يقول المتنبي:

((ووضع الندى في موضع السيف بالعلى...

مضر كوضع السيف في موضع الندى))

إنَّ اتخاذَ مواقف سياسية محايدة ليس أمراً هيناً في عالم السياسة الذي تتجاذبه الضغوطات، وتناوشه المصالح، وتستقطبه القوى المؤثرة..! ليس هيناً على الإطلاق لكن إن تمتع الطرف المحايد بصفة معينة، فإنه سيجد من المبررات ما يقنع الآخرين من مواقفه المتزنة؛ هذه الصفة هي الشفافية وحسن النوايا وهذا ما اتسمت به الدبلوماسية العمانية.

إنك وأنت تشعر أو تدرك أنَّ الإنسان القائم بالوساطة بينك والطرف الآخر يتصف بالشفافية وحسن النوايا فإن ذلك مما يسكن في نفسك الإرتياح، ويشيع فيك الطمئنينة، ويحظى لديك بالقبول. ولم يكن للدبلوماسية العمانية أن تتمكن من لعب دور الوسيط في أية قضايا لولا الشفافية وحسن النوايا. من يدرس علم السياسة يعلم يقيناً صعوبة الشفافية وحسن النوايا فكم هي تعريفات السياسة التي تلصق بها الدهاء، والمكر، والخديعة، والقدرة على المناورة..! تشارل ديجول مثلاً وهو سياسي فرنسي شهير يقول: "بما أن رجل السياسة لا يصدق أبدا ما يقوله، فإنه يفاجأ إذا ما صدقه أحد"، لكن الأعمال لا الأقوال هي التي تثبت الخطأ الذي وقع فيه هذا الفهم غير المؤسس على الشفافية وحسن النوايا، فقد بني على المصالح أيًّا كان ثمنها وطريق تحقيقها!

كنت مشاركاً ذات مرة في حلقة تليفزيونية في إطار ندوة وطنية، حين قال أحد المشاركين جازماً: كلنا يعلم أن السياسة بلا أخلاق..! حين واتتني الكلمة قلت إنني لا أتفق مع هذا التعميم المطلق لتجريد السياسة من الأخلاق، وضربت أمثلةً على السمات الأخلاقية للسياسة العمانية داخلياً وخارجياً.

وميزة الشفافية وحسن النوايا مكنت عمان من لعب دور محايد، يتصف بالتوازن، والعقلانية في أحداث الجزائر الطائفية التي كان أحد أطرافها ممن ينتسبون إلى المذهب الأباضي، وهو دورٌ يلقى الترحيب من النظام الجزائري لأنه يعلم يقينا أن عمان لا تنحاز لطرف دون آخر، وهذا اتباعٌ لمنهج الله في الأرض:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون" (المائدة:8).

وإذا كانت "الدبلوماسية هي فن تقييد القوة" كما يقول هنري كسنجر، فإن الدبلوماسية العمانية تعي تماماً أن ذلك الهدف يحتاج إلى إعمال الحكمة، والعقلانية. وإضافة إلى ذلك فإن تبعات المصالحة، واستقرار الأمن، وشيوع السلام، يستلزم التضحيات، لهذا فإنها -الدبلوماسية العمانية- تبادر طواعيةً بتقديم ما تعينها عليه امكانياتها في إعادة الإعمار، أو تعويض الخسائر أو ما شابه ذلك.

لقد آمنت الدبلوماسية العمانية بأن الأفعال هي التي تتكلم لا الأقوال لأن الأخيرة أسهل من شربة الماء كما يقال؛ فكم سمعنا تهديدات برلمانات في دولة مغلوبة على أمرها بقصف دولة عظمى في عقر دارها..! الجمل الجاهزة مطروحةٌ في محلات الخطاطين..! إنما أن تظهر النتائج دون ضجيج، وبعد معالجات هادئة فذلك أدعى للإعجاب، وأجدر بالتقدير كما حدث في الإتفاق النووي الإيراني مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية.

وحدثٌ تاريخي كهذا يقودنا إلى خصيصة أخرى من خصائص الدبلوماسية العمانية وهي النفع العام، فما كانت عمان لتقدم على أمر لمجرد تحقيق مصلحة محدودة عليها وحدها، بل إنها تقدم منفعة الآخرين قبل منفعتها، وترجو عمومية الخير للجميع، فاتفاق كهذا من شأنه توجيه السياسات إلى التنمية أكثر من إدارة الصراعات في المنطقة وهو توجه لصالح دول الشرق الأوسط وشعوبها، يقول جلالته: "قد أثبت النهج الذي اتبعناه في سياستنا الخارجية خلال العقود الماضية جدواه وسلامته بتوفيق من الله، ونحن ملتزمون بهذا النهج الذي يقوم على مناصرة الحق والعدل والسلام والأمن والتسامح والمحبة والدعوة إلى تعاون الدول من أجل توطيد الاستقرار وزيادة النماء والازدهار ومعالجة أسباب التوتر في العلاقات الدولية بحل المشكلات المتفاقمة حلا دائما وعادلا يعزز التعايش السلمي بين الأمم ويعود على البشرية جمعاء بالخير العميم".

إنَّ من يظن أنَّ دور الدبلوماسية العمانية مقتصرٌ على نقل الرسائل، فقد جانبه الصواب؛ إذ ما كانت عُمان لترضى لنفسها أن تلعب دور ساعي البريد، ولا مكانتها التاريخية تسمح لها بذلك، إنما كانت ناصحاً، بل ومؤسساً لتفاهمات قائمة على مبادئ راسخة لا توهنها عواصف النزعات، ولا تميلها أهواء الانفعالات..!

وإن من يظن بأن عمان تنآى بنفسها عن الصراعات والخلافات ليس دقيقاً في توصيفاته، لأن النأي هو الابتعاد عن الشيء وعمان كانت ولا تزال قيد شعرة من كل الأطراف، بل وأسهمت في كل محاولة لرأب الصدع، وإيقاف النزيف.

... إنَّ الدبلوماسية العمانية تقوم على البراجماتية العقلانية، لا الطوباوية العاطفية؛ فهي تتعامل مع التاريخ، والجغرافيا، والاقتصاد، والثقافة، والسياسات لا مع التكهنات والتنبؤات الانفعالية. هذه الخصيصة العملية هي فلسفةٌ حاضرةٌ في كل شأن تكون طرفاً فيه.

السياسة البراجماتية هي التي دفعت عُمان لطرح مبادرات التعاون منذ بواكير النهضة العمانية الحديثة، يقول جلالته أبقاه الله: "التعاون الشامل بين دول المنطقة في شتى المجالات الدفاعية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبما يتناسب مع ظروف كل دولة ليس مجرد رغبة تخفق بها القلوب، وإنما هو ضرورة لازمة لا غنى عنها وواجب حتمي لا محيص عنه إذ بدونه لا يمكن تحقيق الأهداف المنشودة التي نسعى إليها، والتي ينبغي أن نعمل بكل جد ومثابرة للتغلب على ما قد يصادفها من عقبات تحول دون بلوغها أو تؤخر الوصول إليها".

لا يُمكن إذن قراءة الأحداث بناءً على مواقف ظاهرة، ولا يمكن إصدار الأحكام دون إحاطة بجميع العوامل، لهذا فإنَّ الدول العظيمة هي التي استوعبت الدرس جيداً -وأوروبا هنا تحضر مثالاً قائماً- لهذا فإنها تتجاوز كل الخلافات ماضياً وحاضراً، وتتفادى أية نزاعات مستقبلية وذلك بتوحيد المصير المشترك، وربط مصالح الشعوب لكي تصل إلى الشعور بكيان واحد ينتفي عنده الخصام ويحل بديلاً عنه الوئام.

أعود إلى القول بأنَّ ترسيخ المبادئ المثلى في السياسة ليس أمراً هيناً في ظل تقلبات المصالح، وتغير الأولويات بالنسبة للدول، ولكن أثبت هذا النهج فاعليته على مدى الزمن؛ إذ إنَّ العالم أضحى يبحث عن الصوت الهادئ، والسياسة الحكيمة، والرأي المتعقل، فقد أهدرت أعمار الشعوب وثرواتها في الفتن، والاحتراب الداخلي والخارجي، لهذا كانت الدبلوماسية العمانية أشبه بالمنارة التي ترشد السفن من فوق بحر متلاطم الموج، متقلب الأنواء.

تعليق عبر الفيس بوك