إسرائيل وتهويد القدس

زاهر المحروقي

يبدو أنَّ السباق الإسرائيلي على تهويد مدينة القدس المحتلة، قد تصاعد مؤخراً في ظل ازدياد انتهاكات الاحتلال ومستوطنيه في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وربما يكون قرار بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي برصد مبلغ 100 مليون شيكل من أجل الاستثمار في أعمال استيطانية في محيط حائط البراق بالمسجد الأقصى، وكذلك قرار وزيرة التربية والرياضة الإسرائيلية في يوليو الماضي بنقل المكتب الرئيسي لوزارتها من تل أبيب إلى القدس، يأتيان ضمن سياق هذا التصعيد، هذا غير تعيين القيادي في حزب "الليكود" المتطرف زئيف إلكين وزيراً لـ"شؤون القدس"، وكل ذلك من أجل تسريع وتكثيف عمليات التهويد والاستيطان والتطهير العرقي للفلسطينيين في المدينة؛ وهي عادة إسرائيلية متأصلة بأن تستغل دائماً انشغال العرب بحروبهم البينية لتغيير الواقع على الأرض في فلسطين؛ بهدف جعل القدس مدينة ذات طابع إسرائيلي دون وجود أي أثر إسلامي ومسيحي في المدينة، للوصول إلى بناء هيكل سليمان المزعوم مكان المسجد الأقصى، وعبر التاريخ فإنَّ ما مرَّ بالمسجد نفى تماماً الرواية الإسرائيلية التي تزعم بوجود هيكل سليمان أسفل المسجد الأقصى، بعد أن تعرض المسجد على الأقل أربع مرات لزلازل أدت إلى تدميره جزئياً أو في معظم أجزائه، وكذلك فإن كل الحفريات التي تقوم بها إسرائيل لم تؤد إلى اكتشاف الهيكل المزعوم.

ويذكُر د.حنا عيسى أمين عام الهيئة الإسلامية المسيحية في فلسطين، أنَّ مشروع تهويد البلدة القديمة بما فيها المقدسات الإسلامية والمسيحية هو مشروع كلي وليس جزئيا؛ فقد اتبعت حكومة الاحتلال سياسة تفريغ البلدة القديمة من سكانها الذين يصل عددهم إلى 22 ألف مقدسي والإبقاء فقط على بعض المحلات التجارية لتصبح مكاناً سياحياً فقط.

وحقيقة، فإنَّ النقطة التي ذكرها د.حنا عن تحويل باحات الأقصى إلى مكان سياحي فقط هي نقطة مهمَّة جدًّا؛ فعندما يتم تحويل الأماكن المقدسة في أي مكان في العالم إلى مجرد أماكن سياحية، فإن معنى ذلك أنه يتم إلغاء روحانيتها وقدسيتها، وتبقى مجرد أماكن سياحية مادية، ليس لها أي قيمة روحية أو تاريخية، ومع مرور الوقت ستفقد حتى رمزيتها، سواء كان ذلك في مكة المكرمة أو الفاتيكان أو أي مكان آخر؛ وفي حالة المسجد الأقصى فإن ذلك يدخل ضمن خطة التمهيد لهدمه وتهيئة الناس لذلك، باعتباره أمراً واقعاً مر على مراحل.

ويرى د.حنا أن الخطير في الفكر الإسرائيلي هو اختياره للعمق الذي تتقاطع خطوطه مع العديد من المنشآت القائمة الآن؛ أهمها المسجد الأقصى مما يعرضها جميعاً لخطر الزوال، فيتم الآن البناء في مشروع مجمع "بيت شتراوس" التهويدي عن طريق إزالة الكثير من الآثار العربية والإسلامية بمنطقة ساحة البراق، وتنفيذ مشروع "مخطط زاموش" لتهويد محيط المسجد الأقصى والبلدة القديمة.

وبغياب الدور المصري وإشغال سوريا بالداخل، وبانشغال الفلسطينيين بخلافاتهم، ومع ظهور آفة فتنة المذاهب في الأمة الإسلامية وما تبع ذلك من حروب، وبمحاولة إحلال إيران مكان العدو التاريخي للأمة -كما سبق بإظهار عراق صدام حسين عدوًّا- فإنَّ ما كان يُعتبر في الماضي خطاً أحمر ما كان لإسرائيل أن تتجاوزه، أصبح الآن مباحاً ويتم علناً ولا يجد حتى مجرد التنديد، وأمام هذا الصمت العربي لم نجد إلا اقتراحاً فرنسيًّا بنشر مراقبين دوليين في الحرم القدسي الشريف؛ وهو المقترح الذي رفضته إسرائيل بشدة، واستدعت السفير الفرنسي في تل أبيب للاحتجاج عليه، ولكن إسرائيل ذهبت إلى أبعد من ذلك، حيث حاولت تغيير الوقائع بادعائها أنها ليست المشكلة وإنما هي الحل، فقد أعلن نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، أنه يرفض المقترح الفرنسي، وقال "سبق ورأينا ما يجري في الأماكن المقدسة في الشرق الأوسط حيث يدمر متطرفون مسلمون المساجد واحداً تلو الآخر، ويدمرون مواقع مسيحية وأخرى تراثية ومواقع يهودية"، ولفت إلى أن إسرائيل ليست المشكلة في الحرم القدسي وإنما هي الحل، إذ تحافظ على الوضع القائم بطريقة مسؤولة وجدية.

وقد دخل المحللون الإسرائيليون في الخط؛ إذ حاولوا طمس الحقائق باستغلال تفجير المسلمين لمساجد بعضهم البعض، وبإظهار أن إسرائيل هي التي تحمي المقدسات في القدس، ولولاها لجرى لهذه المقدسات ما جرى للمساجد الإسلامية، وهي نقطة مؤلمة، بأن يتم استغلال لحظة تاريخية فَقَدَ فيها المسلمون رشدهم، لإثبات أن إسرائيل هي الحامية للمقدسات الإسلامية والمسيحية واليهودية في القدس، وكأنها لا تعمل ليل نهار على تهويد المدينة وتدمير كل الأثار الإسلامية فيها، وكأنها لا تقتل الفلسطينيين ليل نهار؛ وقد يكون ما كتبه د.رونين إسحق في صحيفة إسرائيل اليوم بتاريخ 19/10/2015، فيه تلخيص للتوجهات الإسرائيلية حول هذه المسألة؛ إذ كتب يقول "إسرائيل هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تدافع عن الأماكن المقدسة لجميع الديانات.. لذلك فإن الاقتراح الفرنسي غير منطقي ولا حاجة له"، وتتلخص فكرة المقال في أن مراجعة الحقائق التاريخية حول الحرم القدسي تثبت أن السلطة الإسرائيلية حافظت على الحرم، وازداد عدد الزوار "المؤمنين" -يقصد بها اليهود- وكذلك المسلمون وحمايتهم أكثر من أي فترة أخرى في التاريخ، وأن المكان خلال العهد العثماني كان فارغاً ومهملاً، وخلال سلطة الانتداب البريطاني تم تقييد عدد الفلسطينيين الذين يدخلون إلى المكان، وخلال الفترة الأردنية تم إقالة أعضاء الحركة القومية الفلسطينية وسُحبت منهم الحقوق في الحرم، إلا أن السلطة الاسرائيلية منذ 1967 -حسب رونين- منحت الأوقاف الإسلامية مكانة خاصة في الحرم، رغم أن هذا يضر بسيادة إسرائيل في المكان، وسمحت بحرية العبادة الكاملة للمسلمين ولم تقيد دخول المصلين إلى الحرم كما فعل البريطانيون إلا للاعتبارات الأمنية، ويخادع رونين إسحق نفسه عندما يقول إن قوات الأمن الإسرائيلية هي التي تدافع أمنياً عن المساجد وتمنع تدميرها بواسطة الأعمال الإرهابية، ليصل الكاتب إلى أن الاقتراح الفرنسي لوضع قوة دولية في الحرم ليس فقط أنه غير منطقي، بل أيضاً لا حاجة جوهرية له، ولو تبنى المجتمع الدولي الفكرة فسيكون ذلك -حسب رأيه- خنوعاً للضغط الفلسطيني.

... إنَّ إسرائيل مستمرة في تهويد مدينة القدس، وهناك ما يشجعها على ذلك وهو الصمت العربي، لأن العرب مشغولون بقضايا أخرى، وكلها تخدم إسرائيل، سواء كان ذلك بعلم العرب أو دون علمهم، ومهما حاول الإسرائيليون طمس الحقائق وتغييبها عن الناس، إلا أن بعضاً مما يقولونه يحتاج إلى نقاش حتى وإن كانت أقوالهم هذه من مبدأ "كلمة حق أريد بها باطل"، ومن ذلك مثلاً قضية تعمق الشرخ بين المسلمين السنة والشيعة، وأن تتحول المساجد أهدافاً للإرهاب الاسلامي، وهي مسألة عصية على التفسير، ولكن المؤكد أنها تخدم المصلحة الإسرائيلية في المنطقة.

ولكن هناك سؤال نختم به هذا المقال؛ وهو: ماذا لو قام أحد الصهاينة، والذي قد يوصف بأنه مختل عقليًّا، بتفجير المسجد الأقصى -وهو أمر متوقع وليس مستبعداً أبداً-، فكيف ستكون ردة فعل العرب والمسلمين؟!

تعليق عبر الفيس بوك