كونية المسلمين بين العمل الميثولوجي والهذيان السيكولوجي

هاجر مبارك السعدي

المعادلة المستحيلة الحل.. التي لا تتصور إمكاناً للنهضة إلا بتغييب الآخر، تغييب الآخر أي عدم الاعتراف به وإلغاء الحوار معه وتخويلنا بتشيؤه وإراقة دمه، كما تتضمن فلسفة تغييب الآخر وجود فسطاطين الأول مركز الكون، والآخر مجرد جرذان يجب الخلاص منها. هذه الفلسفة تبدو بسيطة الفهم، ومرتكزاتها ضرب من ضروب الجاهلية والتخلف والإفلاس الفكري، وتمثل ظاهرة تاريخية من منظور أعم، حيث الغلو والتطرف في السياق الفكري والديني من أخطر الإشكالات التي مازالت تهدد البنى العربية والإسلامية، وتبرهن ذروة المراهقة الفكرية والسياسية في الدول العربية، وآخر ما أفرزه الغلو الديني في المشهد العربي ظهور جماعة " داعش"، ولا يمكن أن يختلف اثنان في أن داعش تعكس سيادة التخلف والجهل في الفكر الإسلامي الحالي، وهشاشة الخطاب الإسلامي، إلى حد أصبحنا فيه نجزم بأنّ فكرة وجود الدين تمثل "مشكلة"، علاجها لا يتم بالقضاء عليه، بل بالترويض الفكري، ونشر الوعي، وإعمال العقل، وإعادة مراجعات التفسير القرآني - الذي بات ضحية دناءة النفس الإنسانية- وتجديد الخطاب الديني، وعلى الرغم من بساطة تنظير الحلول والعلاج إزاء الغلو الديني إلا أن عملية الإنارة والإصلاح الفكري والنهضوي تحتاج إلى تكاتف جميع أنظمة المجتمع الواحد، وإلى إعادة النظر في التشريعات والقوانين المتعلقة ببند استخدام الدين في السياسة، والسعي إلى تهذيب النفس الإنسانية.

في ضوء ما تمت الإشارة إليه أعلاه يقدم الباحث تركي علي الربيعي مقالته المسماة بـ" قاعدة التسامح مع الآخر: نحو فهم تنويري داخل الإسلام " وفكرة المقالة هي تقليب أوجه تفسيرات المفسرين القدماء منهم والمحدثين للآية الكريمة: " يا أيّها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعًا فينبئكم بما كنتم تعملون" رغم وضوح وتجلي معنى الآية للقارئ الشعبي والنخبوي والمعرفي والنهائي؛ وهي تصنيفات ابن عباس لفهم النّاس للقرآن، إلا أنّها أثارت الكثير من الإشكال في التفسير وانقسمت في اتجاهين، حيث نجد أنّ جميع المفسرين القدماء من الطبطبائي والطبري والإمام الغزالي وغيرهم اتجهوا إلى تفسير دعوة الآية إلى تطبيق قاعدة التسامح مع الآخر، وقاعدة التسامح هي قاعدة التنوير والديموقراطية معًا، وذلك على حد تعريف آلان تورين للديموقراطية" هو الاعتراف بالآخر، الآخر القريب الذي تعزز به لحمة الجماعة والمجتمع، والآخر البعيد الذي لا يُمكن للنهضة المرتقبة أن تتحقق بعيدًا عنه أو بغيابه" كما ترى بعض الخطاباتالإسلامية المتطرفة. من هنا تتأتى أهمية الحاجة إلى ما سمّاه أحدهم بـ"الحلف التنويري". والجدير بالإشارة إليه هنا أن التسامح كقيمة ومبدأ أخلاقي يتطلب الاعتراف بالآخر، ومفهوم الاعتراف يُعد من المفاهيم التي حظيت بجزء من فلسفة وفكر هيجل وأكسل هونيث، فالاعتراف ليس قضية نظرية أو مفهوماً ميتافيزيقياً يُشير إلى تجربة متعالية عن الواقع الإنساني، فالاعتراف هو معطى بيولوجي أساسي ومنظور أخلاقي تستتبعه علاقة عملية للذات في علاقتها بالغير، والفكرة الأساسية والأكثر شهرة التي يُدافع عنها هونيث هي : " إن الصراع من أجل الاعتراف يشكل القوة الأخلاقية التي تغذي تنمية المجتمع الإنساني وتقدمه". وهذا ما يُبرهن جدوى وأهمية التسامح سواء كان ذلك بتحريض من بذرة مُقدسة أو من فلسفة تنمية الإنسان في الوجود.

بينما الاتجاه الثاني والذي يُمثله تفسير أحادي القطب لسيد قطب، وهو أنّ الآية تدعو إلى كونية المسلمين وما عداهم يمثل عدوًا يجب فرض القوامة عليه. وهنا يبرز التيار الأصولي والتطرف الديني إلى جانب تسييس الدين. على الرغم من أنّ قول الله " لا يضركم من ضلّ" تعني من عرف نفسه عرف ربه، وأن الله لم يجعل المؤمنين أوصياء على أفكار الناس وأعمالهم، والآية مضمرة بالدعوة للتسامح والاعتراف بالآخر والاختلاف، ولكن ما نشهده اليوم في المشهد الثقافي والسياسي العربي من الحروب وإراقة الدماء وبث الجهل ونوازع التخلف والتطرف والإرهاب لا سيما بين - حديثي الأسنان أي صغار السن - جاءت باسم الدين وباسم تفسير هذه الآية على حد زعامتهم.

والفاحص للقرآن الكريم يجد التناقض والنفاق والخيانة مع أفكار وحكمة الرسالة الألوهية، ومن هنا يمكننا أن نعزو مسوغات تفسير سيد قطب للآية الذي يتجلى فيه تقسيم العالم إلى قسمين وفسطاطين حيث إنّ الأمة الإسلامية منفصلة عما عداها، فهي تمثل شعب الله المختار وما عداها مأواها النار، وهذه التداعيات التي أنتجت نشود القوامة على الآخر وهداية الآخر وإن تطلب الأمر استخدام سلاح القوة؛ إنّه كان يخوض حرباً على مستوى التصورات الغربية - أي الآخر- التي كانت مهيمنة على العالم الإسلامي، مما ظهر انفصاما وانفصالا وقطيعة معرفية عن الأصول الإسلامية، إلى جانب حلمه ببناء قوة سياسية دينية كبيرة، وفي الجانب الآخر نجد أن مسوغات التيارات الراديكالية الإسلامية اليوم عمل ميثولوجي محض لا يتجاوز حقيقة الهذيان السيكولوجي، إضافة إلى تبني كل قوة أهدافاً كامنة تخدم أحلامها السياسية ومصالحها الذاتية، بحيث يمكن القول هنا إن الدين دنّس حين لبّس ثوب السياسة وطوع للمصالح الذاتية.

ونجد أن تركي الحمد في كتابه "السياسة بين الحلال والحرام" أشار إلى أنّ فكرة الغلو الديني وفلسفته المرتكزة على الجاهلية، التي تعني السلوك " التعصبي" والنعرة الذاتية المفرطة التي لا ترى إلا ذاتها، وإن كان ذلك على حساب الآخرين، هو بالضبط ما كان يعنيه الرسول (عليه الصلاة والسلام) وصحبه الكرام (رضوان الله عليهم)، حين كان يقول لبعض أصحابه، ممن تأخذهم العزة بالذات على حساب ذوات أخر، في ما معناه " أنت امرؤ فيك جاهلية" والجاهلية بهذا المعنى لم تختفِ اختفاء كلياً في أيّ مرحلة من مراحل التاريخ العربي والإسلامي، ولكنها قد تكون بارزة الوضوح في مرحلة ما، وكامنة تحت أرض المجتمع في مرحلة أخرى، ولكنها لا تختفي تمامًا، بحيث يمكن القول إنها كانت دائما جزءًا لا يتجزأ من هذا التاريخ في قديمه وحديثه.

تعليق عبر الفيس بوك