الحداثة صديقة الأديان لا عدوتها

 

فاطمة ناصر

يتناول الباحثان غريس ديفي وهاينرش شيفر عبر مقالهما (مقدمات نظرية لدراسة الدين في الأزمنة الحديثة) سير العلاقة بين الدين والحداثة، كيف أنّ الدين ليس جامدًا بل هو في حالة تشكل دائمة، تؤثر به المتغيرات التي حوله. إلا أنّ هذا التشكل لا يخلو من صراع داخلي بداخل الدين نفسه، حيث يختلف البشر القائمون عليه، فمنهم أكثر تقبلاً للتغيير ويدعو للتكيف والمتغيرات الحديثة، ومنهم أكثر أصولية، يرى مثالية الدين كما جاء وأي تغيير حديث يُعد مصدراً من مصادر التهديد. ولكن كيف نفهم هذه التوجهات الدينية، هذا ما يُحاول المقال الإجابة عليه.

يطرح الكاتبان النموذج الأوروبي العلماني بوصفه نموذجا استثنائياً، ويستشهدان بالسوق الدينية الرائجة في أمريكا، ونشاط المسيحية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا ماوراء الصحراء، وظهور جماعات تطلق على نفسها (الإنجيليون الجُدد)، وحالات التمسك بالإنجيل الكاثوليكي في الشرق الآسوي: كالفلبين وكوريا الجنوبية. والصعود الديني في الشرق الأوسط والإحياء الديني في القارة الهندية مستهدين بما قاله عالم الاجتماع واللاهوت الأمريكي بيتر برغر عام 1992 : " بأن العالم يتحول دينياً إلى حد لم يبلغه من قبل "، ولفهم هذا التغير الحاصل، يستعرض الكاتبان ثلاث أدوات نظرية:

أولها : النظرية العلمانية والتي تفترض أن ظاهرة الانسلاخ عن الدين لصالح العلمنة سوف تتحول إلى ظاهرة عالمية مع تقدم المد الحداثي في العالم. ويقول الكاتبان إن النظام العلماني من الصعب تطبيقه أو تعميمه خارج السياق الأوروبي، لاختلاف المحيط الذي يحكم العلاقة بين الدين والمجتمع. كما أنّ الظروف التي ساعدت على نشوئه، وخاصة حركة التنوير والتحديث الفرنسية، أعادت تشكيل علاقة الدين والدولة. حيث أصبحت المدرسة ومؤسسات الدولة تحل محل الكنيسة. ويقول الكاتبان إنّ الصراع التاريخي بين الدين والدولة في فرنسا يُبرر هذا الفصل، إلا أن تبعاته لاتزال موجودة وغير مفهومة، خاصة فيما يتعلق بقضية حجاب الفتيات في المدارس ومنع فرنسا له. وهنا أختلف مع الكاتبين، حيث إنّ قضية الحجاب ليست مشكلة غير مفهومة كما يقولان، بل هي قضية مفهومة جدًا وواضحة خصوصًا من الجانب التشريعي. فالدستور الفرنسي صان حرية مُمارسة الشعائر الدينية، إلا أنّ القوانين المنظمة للدستور أوجدت قوانين تمنع ارتداء أيّ شيء يشير إلى هوية دينية في المدارس الرسمية فقط، وهذا يشمل كل الرموز الدالة على دين معين وليس الحجاب إلا رمزا من الرموز هذه، حاله حال الصليب، فارتداءه يمنع بذات القانون. هذا من باب التوضيح، حيث إنّ القارئ للمقال في غياب شرح لهذه النقطة، سيفهم أنّ المنع موجه للمسلمين فقط دون سواهم. ولختم نقطة العلمانية نقول إنّ على الرغم من الفصل الظاهري للمؤسسة الدينية، فإن الدين حاضر في الكثير من التحليلات حتى الساسية منها، وإن الكثير من الأفكار حول الفصل المطلق للدين عن الحياة العامة هي غير دقيقة وتتسم بالتعميم.

أما النظرية الثانية: فهي نظرية الخيار العقلاني وهي النظرية المطبقة في أمريكا. وهي ترتكز على مبدأ العرض والطلب، حيث تتنوع العروض الدينية تبعاً لحاجة الناس. وتزدهر في الحيز الأمريكي عروض متنوعة وبالغة التباين والتمايز، إلا أنّ المكان والإنسان الأمريكي يتقبلانها. ويُعزي الباحثان السبب إلى أن أمريكا على عكس النظام الأوروبي الذي ذكرناه سابقًا، لم تتصادم مع الدين، وأن الفصل بين السلطة والدين كان محددا منذ البدء، على عكس أوروبا التي دخل فيها الدين كمنافس على السلطة. أما الدين في أمريكا فهو خيار عقلاني حر، تمارسه أينما شئت وكيفما شئت، دون أن يتصادم مع السلطة، فهو غير معني بها ولا ينافس عليها. يذكر الباحثان أن السوق الدينية في أمريكا مزدهرة، وأضيف إلى ما ذكراه أنه مزدهر إلى درجة ابتكار أديان جديدة؛ فالدين في أمريكا مرتبط بالسوق ارتباطاً وثيقاً، وأثناء بحثي عن هذه العلاقة وجدت كتاباً مهماً، وهو (Religion and the Marketplace in the United States )، حيث يوضح الكتاب تزايد الطلب الديني، وبالتالي تنوع العرض بناءً عليه. بل إنّ كثرة الطلب على الدين أصبحت محفزاً تنافسيًا للسوق، حيث يُعامل الدين كأيّ سلعة أخرى، تحتاج إلى خطة تسويقية وعروض ترويجية، وهذا ما يتم تطبيقه بالفعل في أمريكا. بل إنّ أمريكا بيئة خصبة للدين إلى درجة أن هناك أديانًا جديدة نشأت فيها. ففي كتاب :

New Religions and the Theological Imagination in America، يتناول دراسة لعينة من ستة أديان جديدة نشأت في القرنين التاسع عشر والقرن العشرين، وهي: Mormonism, Christian Science, Theosophy, The Unification Church, Scientology and The New Age Movement . وهذه التجربة الأمريكية، لها خصوصية معينة، لا تنطبق على غيرها من الأقطار. لهذا يصل الكاتبان إلى استعراض لنظرية ثالثة أكثر شمولية من النظرية الأولى والتي كانت خاصة بالنطاق الأوروبي، والنظرية السابق ذكرها والخاصة بالمناخ الأمريكي. تتبنى النظرية الثالثة، نموذجًا لصامويل ايزنشتات يدعى (الحداثات المتعددة)، وهي النظرية المقابلة للنظرية الكلاسيكية والتي تعتقد أن للحداثة شكلا واحدا يتم تعميمه حول العالم، ففي هذه النظرية يتم التركيز على الاختلافات البيئية والفكرية والتي تجعل لكل حداثة شكلها الخاص في حيزها المكاني. وهي بذلك تناقض مقولة إنّ العولمة الأوروبية ستنتشر حول العالم بفعل مقومات الحداثة وهيمنة السوق. ويفسر هذا ظهور تجمعات من رحم الحداثة تعارض الكثير من مبادئها: كالحركات المقاومة للاستعمار وهيمنة السوق وحركات المجتمع المدني،والحركات الدينية الأصولية التي أيضاً ترى أنها صالحة لكل العالم ولا تعترف بالحدود، بل تأخذ من الإصلاح شعاراً عالمياً لها، وكذا الحال لحركات الإسلام المعاصر التي تتبنى خطابا حداثياً وإصلاحيًا جديدًا، يواجه فيه ما هو سائد ورتيب لا يتجدد.

أما النظرية الرابعة والأخيرة فهي: نظرية الفاعلين، التي ترتكز على العناصر الفاعلة التي أوجدت (الحداثات المتعددة)، فالتركيز لا يكون فقط على المؤسسة الدينية: كالكنيسة أو المسجد، بل التركيز على العناصر الفاعلة وغالبا ما تكون في خارج هذه المؤسسات، حيث يستغل الفاعلون الحريات المتاحة للتعبير والرأي العام، فيجد الأصولي حقه في الكلام والحشد، وكذلك الوسطي يحصل على ذات الحيز.

وختاماً: أتفق مع الكاتبين بأنّ الحداثة والعصرية لا يعارضان الدين في شيء، بل إنّ الشخص العصري قد ينقد الدين باسم الحداثة، وقد ترى شخصًا آخر ينقد الحداثة باسم الدين، وأن هذا العصر هو عصر الهيمنة الدينية، والتي من المهم محاولة فهمها من خلال النظريات السابقة. وأضيف عليهما أن كلا من الهيمنة الإسلامية، بشقيها الأصولي والوسطي، يستخدم معطيات الحداثة وأدواتها في نشر ما يدعو إليه.

تعليق عبر الفيس بوك