قراءة في نهج الشورى لدى جلالة السلطان

حميد بن مسلم السعيدي

خمسة وأربعون عاماً من تاريخ النهضة العُمانية كانت مبعث فخر لكل عُماني على هذه الأرض الطبية في ظل القيادة الحكيمة من لدن جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم، هذا القائد العظيم الذي استطاع خلال فترة وجيزة أن يحقق لعُمان العديد من الإنجازات على مختلف المجالات، ورغم كل ذلك فهو لم يكن بعيداً عن شعبه، فكان النهج السامي المتمثل في الشورى راسخاً في أقواله وأفعاله، بدءًا من الجولات السامية والتي كانت تمثل سمة حضارية متأصلة منذ بداية عصر النهضة المباركة، حيثحرص على الالتقاء الدائم والمباشر مع أبناء شعبه فيستمع إليهم ويلتقي بهم ويلتمس احتياجاتهم واقتراحاتهم ومطالبهم، وهذا التواصل يمثل نهجاً ديموقراطياً قائمًا على مشاركة المواطن في التخطيط لبناء وطنه، مما يُعزز من ثقة المواطن في القيادة الحكيمة، وينمي مسيرة التنمية الوطنية في كافة المجالات، ويشعره بالفخر بهذه المشاركة الوطنية، لقد كان حقاً برلماناً عمانياً خالصاً.

وقد أثمر هذا التواصل والمشاركة الوطنية عن امتداد إنجازات التنمية العُمانية لتشمل كل أجزاء هذا الوطن، وأين ما تواجد الإنسان العُماني كانت الخدمات الأساسية كالتعليم، والصحة، والمواصلات، والكهرباء، والمياه، والاتصالات من أولويات التنمية التي تضمن الحياة الكريمة له بما يحقق كل سبل التقدم والازدهار لهذا الوطن العزيز، فهذا البرلمان الوطني له خصوصية عُمانية لأنه كان مفتوحاً بدون أي ترتيبات أو حواجز أو إجراءات بروتوكولية، وهذا أحد نماذج الشورى العُمانية والتي تضمن أحد عناصر النهج السامي لجلالته في مشاركة المواطن العماني في بناء هذا الوطن، وإلى جانب هذا البرلمان يأتي المجلس الاستشاري للدولة والذي افتتح عام 1981م، بهدف إتاحة قدر أكبر من مشاركة المواطن في التخطيط للمستقبل، وفي خطاب جلالته بهذه المناسبة ركز على هذا الجانب "إننا تعهد إلى مجلسكم بمهمة إبداء الرأي والمشورة، في السياسة العامة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، فإننا نريد أن يكون هذا المجلس إطارا لجهد مشترك بين القطاعين الحكومي والأهلي" فعملية التطور بالمجتمع العُماني كانت تتطلب المشاركة الأهلية في تقديم الرؤى والأفكار لمساندة الحكومة في مشاريعها التنموية، وهذا يمثل تجسيداً لمبدأ الشورى ومنح المواطن الثقة في قدراته وإمكانياته ليصبح عضوًا فاعلاً في بناء الوطن، وكان يمثل مرحلة لتهيئة المواطن العُماني على الحياة السياسة والبرلمانية، وإتاحة أكبر فرصة لمشاركة المواطن في الجهود الحكومية وهذا ما ورد في خطاب جلالته في افتتاحية المجلس "استمراراً لسياستنا الرامية إلى إتاحة أكبر قدر من المشاركة للمواطنين في الجهود التي تبذلها الحكومة"، فهذا النهج السامي يتبلور في التدرج في تعريف المواطن على هذا النمط من الشورى، وقد سبقه مجلس خاص بالزراعة والأسماك أسس عام 1979م، لكنه استبدل بالمجلس الاستشاري، لذا فقد تمكنت هذه التجربة من تحقيق المشاركة الفاعلة من المواطن في مسيرة التنمية، وهذا ما أشاد به جلالته في خطابه "لقد كان إنشاء المجلس الاستشاري للدولة تجربة متميزة نابعة من صميم واقعنا العماني، أتاحت للمواطن قدراً كبيراً من المشاركة في جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية"، وقد استمرت هذه التجربة البرلمانية حتى عام 1990م، حين أعلن جلالته عن إنشاء مجلس الشورى ليصبح البداية الحقيقية للديموقراطية العُمانية، "تقديراً منا لهذا النجاح الذي أحرزته التجربة العُمانية في مجال الشورى، وتحقياً لوعودنا بالعمل على تطويرها بما يُوفر مزيداً من الفرص أمام المواطنين لمشاركة أوسع في تحمل المسؤولية والإسهام في بناء الوطن فإننا قد قررنا إنشاء (مجلس الشورى)".

فعملية التدرج في تطوير المجالس البرلمانية كانت تأتي من خلال تخطيط استراتيجي يهدف إلى تطويرها بناء على مقدرة المواطن على المشاركة بصورة أكثر منطقية ومقننة، لذا فمجلس الشورى كان مميزاً لأن عضويته من ممثلي الولايات دون أن يكون للحكومة أعضاء فيه، وهذا ما مميزه عن المجلس الاستشاري،وقد مر مجلس الشورى بمراحل من التطور بناء على المراسيم السلطانية التي تعنى بعملية تطويره حتى وصل للدورة الثامنة، وقد شمل هذه التطوير بدءا بنظام اختيار أعضائه إلى التطوير في أنظمته وتشريعاته والصلاحيات التي منحت له، إلى أن وصل للدورة الثامنة، والتي تمثل اليوم تجربة برلمانية عمانية مميزة في مجال مشاركة المواطنين.

استمراراً للنهج السامي في تحقيق رؤية برلمانية عُمانية ناجحة فإنّ صدور النظام الأساسي للدولة عام 1996م كان البداية لافتتاح مجلس عُمان والذي يتكون من مجلسين: الأول مجلس الشورى والذي يتكون ممثلي الولايات ويتم اختيارهم بانتخابات برلمانية سرية من قبل المواطنين، والثاني مجلس الدولة والذي يتم اختيار أعضائه بمرسوم سلطان، وذلك للاستفادة من الخبرات المختصة والذي عملوا بالجهات الحكومية سابقاً، والمشهود لهم بالكفاءة والخبرة في مجالات العلم والأدب والثقافة وأساتذة الجامعات، والأعيان ورجال الأعمال، وقد انتهج جلالته سياسة تطويرية في مجلس عُمان حيث حصل على العديد من التطوير في المواد القانونية والصلاحيات التشريعية والرقابية له، مما يعطي دلالة على أنّ جلالته أراد لهذه المجالس البرلمانية تحقيق الشراكة الحقيقية للمواطن بحيث يحقق التكامل في الرؤى والمقاصد الوطنية، وأبداء الرأي والمشورة في كل ما يتعلق بالمؤسسات الحكومية.

إن التجربة العُمانية في مجال الشورى ليست حديثة النشأة فقد ترسخت في فكر العُمانيين على مدى تاريخ الحضارة العُمانية، فقد كانت الشورى نهجاً متميزاً تمثل في العديد من المواقف التاريخية والذي أثبتت فيه الشورى نجاحها في المشاركة في اتخاذ العديد من القرارات، وما حققته الحضارة العُمانية من بناء إمبراطورية في منطقة المحيط الهندي نابع من الاعتماد على مشاركة المواطن في اتخاذ القرارات والسياسات الوطنية، وكان من أهم النماذج البرلمانية الناجحة اختيار الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي عام 1744م حاكماً على عُمان نتيجة لاجتماع أهل العلم والمشايخ، والذي يمثل بداية لحقبة تاريخية عُمانية جديدة، لذا فإنّ جلالته يعطي مجلس الشورى أهمية عظيمة ودور رائد في تحقيق مستقبل زاهر لهذا الوطن، وهذا ما أكد عليه في خطابه لدى افتتاح المجلس عام 1991م "إنها لمسؤولية جسيمة أنتم أول من يتحملها، وأمانة عظيمة أنتم في مقدمة من يُسأل عنها، فلابد من تقديرها حق قدرها وأدائها على الوجه الأكمل الذي يمهد الطريق لمزيد من التطور في مستقبل الأيام".

والمواطن اليوم يجب أن يكون على مستوى عالٍ من المسؤولية الوطنية يُقدر حجم الثقة السامية التي منحها جلالته لأبناء شعبه في اختيار أعضاء مجلس الشورى وفي يوم تاريخي برلماني، حيث لابد من تواجد الصورة البرلمانية الحقيقية القائمة على اختيار الأكفأ والأجدر بهذا المنصب الوطني، لأننا نعي جيداً أن مستقبل هذه الوطن قائم بالاعتماد على الكفاءات الوطنية، فلنكن عند تلك الثقة السامية.

Hm.alsaidi2@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك