إنهم ضحايا نظام تعليمي قاصر

رحاب أبو هوشر

ينضمُّ مزيد من الخرِّيجين إلى طابور البطالة سنويا، بالتزامن مع استمرار تدفقهم من الجامعات العربية، وكان يمكن رد الأمر إلى محدودية سوق العمل مقابل أعداد الخريجين فحسب، أو إلى ثقافة اجتماعية، لا تزال ترى بريقا اجتماعيا للوظيفة وبعض المهن. أما أخطر الأسباب، فهو ما تتداوله تقارير رسمية عديدة؛ منها: تقرير منظمة العمل العربي الأول الصادر عام 2014، عن عدم ملاءمة مخرجات التعليم العالي الحالية لمتطلبات سوق العمل العربي، لجهة افتقاد الخريجين للتدريب، وضعف مهاراتهم التكنولوجية واللغوية، وانخفاض كفاءتهم الأكاديمية.

المعضلة إذن في النظام التعليمي برمته. ندرك أننا لم نكن يوما في طليعة بلدان العالم أكاديميا؛ فالتعليم العالي حديث نسبيا في منطقتنا، ولكن كان لدينا في العقود الماضية، بضع جامعات عريقة، في عدد من الدول العربية، كانت تعد من بين أفضل جامعات العالم، حققت مستوى جيدا في تأهيل الطلاب أكاديميا، وتخرج منها باحثون ومهنيون، وعلماء ومفكرون وأدباء، ساهموا في حراك المجتمع العربي المتحفز للتنمية والنهوض.

ومع مطلع القرن الحادي والعشرين، تزايدت أعداد الجامعات في البلدان العربية، ما بين رسمية وخاصة، وتضاعفت أعداد الجامعيين في مختلف التخصصات. ليست لدينا مشكلة كمية، ولكن في القوائم العالمية السنوية لأفضل الجامعات، لن نجد جامعة عربية واحدة، وفي أحسن النتائج واحدة أو اثنتين فقط، بمقابل اكتساح الجامعات الأمريكية والأوروبية للقوائم، مع بروز جامعات آسيوية وأفريقية مؤخرا. والسبب بسيط، في عدم مطابقة جامعاتنا لمعايير وضوابط تلك القائمة، فميزانية عدد منها وإن كانت في دول ثرية، لا تبلغ نصف ميزانية جامعة أمريكية واحدة. الميزانية يقصد بها مباني وقاعات دراسية ومكتبات ومختبرات، ومشاريع بحوث علمية نظرية وتطبيقية، وباحثين وهيئة تدريس مؤهلة بشكل جيد.

والمعايير الدولية تنسجم مع دور الجامعة الأساسي في الإنتاج العلمي والمعرفي في كافة أنشطة الحياة، ومساهمتها في إغناء الحياة الأكاديمية بالكتب والمقالات والبحوث المنشورة أيضا. ومعيار يبرر وجود الجامعة ذاتها وهو جودة التعليم الجامعي، ومستوى الطلاب الأكاديمي.

المفارقة أنَّ تنافس دول العالم على دخول تلك القائمة السنوية، يقابله تدهور يتزايد في أداء الجامعات العربية، لتفقد شرعية وجودها، ولتخرج عن التعريف الأساسي للجامعة، فتصبح مجرد امتداد لمرحلة المدرسة، بمناهج وأساليب تعليم ربما تجاوزها العالم كله باستثنائنا، ويقتصر دورها على إدراج الطلاب في تخصصات لم يعد معظمها يرتبط باحتياجات المجتمع، لمنح الشهادات للراغبين بلقب "جامعي"، كإنجاز أول ونهائي لها.

الجامعة فقدت دورها الذي قامت به إلى حد ما في مراحلها المبكرة، في بلورة شخصية الطالب العلمية والفكرية، وإعداده للحياة مهنيا واجتماعيا، بفعل الجمود والتكلس في رؤيتها للتعليم، وبفعل استشراء الفساد، وارتباط ميزانياتها وسياساتها التربوية والتعليمية بأنظمة تتعارض مع فلسفة التعليم وأهدافه.

وما زالت أساليب التدريس في جامعاتنا، تقوم على التلقين والحفظ، والوصاية على عقل الطالب، ولجم فضوله المعرفي، وقتل قدرته على التساؤل والشك والبحث وتحليل الظواهر والأفكار والتوصل لاستنتاجات. الذهنية القائمة على الجامعة تقمع فكرة النقد، ولا تسمح للطالب بتكوين شخصيته المستقلة، وتعيق إمكانية إطلاق إمكانياته ونضجها. ومناهجها الدراسية المتأخرة على مناهج جامعات العالم، حشو لرأس الطالب بما لا ينفع، ولا يبقى، لتنتهي علاقته بتلك الحمولة مع أداء الامتحان، والحصول على الشهادة.

المعركة الأساسية التي تعيها الأمم والشعوب اليوم، وتخوضها بكل قدراتها، ليست إلا في التعليم العالي، ليس المتوفر والقاصر لدينا بالطبع، وإنما تعليم البحث والتجربة، وإكساب الطالب مهارات الإبداع، وهذا جهد تقوم عليه مراكز بحث جامعية ضخمة، ترصد لها الميزانيات ويقوم عليها أساتذة وخبراء، بعضهم عرب ساهمت أنظمة الجامعات العربية البائسة في هجرتهم للخارج.

الطامة الكبرى حدثت لدى استحداث الجامعات الخاصة في معظم الدول العربية، بشكل عشوائي، لم يعن بالتخطيط للتخصصات وفق احتياجات السوق، إضافة إلى تحايل بعضها للتهرب من الالتزام بضوابط، جودة التعليم الجامعي، المعمول بها لدينا على الأقل، تقليصا للنفقات وزيادة للأرباح. مثل تلك الجامعات لم تكن إلا مشاريع تجارية، لمستثمرين لا علاقة لهم بالعمل الأكاديمي، برسالته وأهدافه ودوره، ويعملون وفق معايير الربح والخسارة. شركات تدار لجني الأموال من الطلاب، وآخر همومها جودة التعليم، ومستقبل الأجيال القادمة.

وعلاوة على افتقار الخريجين للتدريب والمهارات، فهناك منهم من لا يمكنه كتابة جملة صحيحة باللغة العربية، علاوة على مستواهم الفادح والفاضح بأي لغة أخرى، خصوصا الإنجليزية، الأكثر انتشارا وطلبا في سوق العمل. كانوا طلابا لم يهتموا حتى بكتبهم الدراسية، ففي ظل اهتراء النظام الجامعي وفساده، كان بإمكانهم أيضا شراء الامتحانات والدرجات والشهادات، من أستاذ جامعي أفقدته حاجته للقمة العيش، هيبته الأكاديمية وأخلاقه الانسانية، وصار جزءا من الفساد!

تعليق عبر الفيس بوك