سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟ (19)

د. صالح الفهدي

التعقيد والفساد

ناديتُ صاحب المطعم الذي نزلَ على التوِّ من سيارتهِ، فلم يلتفت إلينا، حيث أسرعَ إلى سيارةٍ تحملُ لوحةً حكوميةً ليسلم على صاحبها و(يخدمه) وكأني أرى قلبه وقد تسارع في وجيبه، فعرفتُ سر تورد وجههِ الذي انتابهُ القلق والخوفُ معاً..!! بعدها جاءَ إلينا مرحِّباً وقد انبسطَ وجههُ، وهدأت نفسه، وبدا وكأنه ألقى حِملاً ثقيلاً كان على كاهله منذ قليل. سألتُه من ذلك الرجل؟! أجابني بأنه مديرٌ في إحدى المصالح الحكومية..! ثم أردفَ الرجلُ التركي بلكنة عربية بعضها غير سليم: لازم "نترعاهم" أي نهتم بأمرهم "الدنيا ماشية هيك".

أعرف أنَّ الرجل قد أُغلقَ مطعمه لمدةٍ ليست بالقصيرة، لهذا ففي استنتاجي أن الرجل قد ضاعف قدراتهُ، وطور ملكاته من أجلِ كسب العلاقات أكثر منذ ذي قبل لكي يضمن عدم حدوث مثل تلك المصيبة عليه؛ الأمر الذي جعله يبدي اهتماماً ملحوظاً بكل صاحبِ علاقة بمصلحةٍ حكومية ترتبطُ بقريب أو بعيدٍ بنشاطه!

ودون مواربةٍ في الطرح، أقول: إنَّ التعقيد ينتج الفساد بأنواعه..!! فكلما زاد العمل الروتيني، وتعقدت الإجراءات، تتعطل المصالح، فينتجُ عن ذلك الابتزاز الذي يولدُ طرقاً ملتويةً لقضاء المصالح لها أثمانها الخفية مادياً وأخلاقياً..! يقول صاحب الوزارات الراحل د.غازي القصيبي في كتابه"حياتي في الإدارة": "قال لي أحد المواطنين ذات يوم: كل مرةٍ تصدرون فيها نظاماً جديداً تنشأ رشوة جديدة"!

التعقيد الذي نقصدهُ هو في الإجراءات التي ليس من ورائها طائل، لو تفكر فيها المرءُ الحصيف، وأعملَ فيها فكره وجهده لخرجَ منها بموجزٍ غير مخل، واختصارٍ غير ممل..! قال لي أحد المسؤولين أُوكلت إليه مسؤولية لجنة لتوحيد الإجراءات واختزالها من أجل البدءِ بمشروعٍ معين: عندما أَحضرت كل جهةٍ ملفاتها ووضعتها أمامي وجدتني غارقاً بينها لا أرى من يجلسُ أمامي في الطاولة!! ملفاتٌ مكتنزةٌ بالطلبات والاستمارات واللوائح والقوانين والتشريعات التي ليس لها نهاية!! يقول: طلبت أن تجتمع اللجنة بعد أسبوعين وخلالهما قرأتُ كل تلك الملفات ووجدتها متضاربةً، ومزودوجة فيما بينها، فكلها يطلبُ الطلبات نفسها، وكلها ينشد الضالة ذاتها! وأخيراً تم اختزال كل تلك الأكوام من الملفات إلى استمارة واحدة.. واحدة فقط أدت الغرض، ووفت بالمراد!

هذا مخرجٌ طبيعي، وناتجٌ فطري لأن التعقيد في المصالحِ إنما أحد مسبباته الازدواجية التي جعلت كل جهةٍ تعملُ بمنأى عن الأُخرى حتى أصبحت الجهات الخدمية كالجزر المتفرقة الأوصال..! وهذا ما أدى بدوره إلى إهدار الأموال والجهود والزمن والإمكانيات وهي جميعها ثروات وطنية لا تقدر بثمن. كما أن تقرير التنافسية يعد دليلاً على التعقيد في تخليص المعاملات، واستخراج التصاريح، وبقية الإجراءات التي ينظر إليها المستثمر بعين الحرص والدقة..! يقول إيجور لوكسيك Igor Luksic رئيس وزراء الجبل الأسود سابقا: "إننا مصممون على تحسين البيئة الاقتصادية بجذب المستثمرين عن طريق التخلص من الروتين".

هنا.. يتبيَّن وجهٌ من وجوه الإشكالية وهو ما يتعلق بالجهة المسؤولة عن تسهيل الإجراءات، والتنسيق بين الجهات، وطرح المشاريع التي من شأنها تيسير العمل وفق قاعدة "لا ضرر ولا ضرار"؛ فإن تصدت جهة ما لهذه المهمات -وهو أمرٌ من الأهميةِ بمكان- فإنها لابد أن تقوم على أُسس أهمها: اتصالها المباشر بصاحب القرار التنفيذي الأول، وقيامها على كوادر يُعرفُ عنها عداؤها للبيروقراطية -بحسب المفهوم المتداول- وعملها الدؤوب، والنشط لتطبيق خطةٍ إستراتيجية ذات برنامج زمني محدد. هذه الأُسس الثلاثة: الصلاحيات التنفيذية، الكفاءات الفاعلة، الإستراتيجية الواضحة عمليا وزمنيا ستضمنُ انخفاض معدل التعقيد إلى مستويات دنيا؛ مما سيكون له أثره المحفز للاقتصاد الوطني. في أستراليا أوصت الحكومة الأسترالية حكومات الكومنولث بإنشاء وحدة لتخفيض الإجراءات الروتينية في كل مقاطعة، وكان لهذه الوحدة أثرٌ فاعل في القضاء على البيروقراطية المبالغة، والحد من التعقيد في الإجراءات، وتخفيض التكاليف. كما أن هذه الوحدات أو الدوائر تقوم بالتنسيق والتعاون فيما بينها.

... إنَّ محاربة الفساد لا تعني في مجملهِا محاربة أصحاب الضمائر الفاسدة، والأيادي الخفية، وإنما أيضاً إصلاح نظام العمل القائم، فأي تعقيدٍ في منظومة العمل يعني وجود فرص ناشئةٍ للفساد..! وأي خللٍ في آلية العمل، وفي قوانينه، لا يحل في الغالب بتغيير المسؤولين وإنما بإصلاحِ العطل، ومعالجة الخلل. الإشكالية تحدثُ حين يتم كشف الفاسدين، وتقديمهم للعدالةِ، وإبقاء نظام العمل على علاتهِ، وثغراته قائماً كما هو..! وهكذا تتكرر الواقعة وكأنها حلقةٌ من الصورِ تدور دون تغير!

لقد أنشأ التعقيد ثقافة اجتماعية غير صحية، أساسها التزلف إلى أصحاب القرار، والتقرب والتودد إليهم، وفسادُ النفوس، وإرشاءُ الفاسدين، ففي أحد المجالس وبعد أن صافح أحدهم الحضور اقترب منا متحيراً فهذا يريده أن يجلس إلى جانبه وذاك يريده، فوجه إليه أحدهم نصيحة (ذهبية) قائلاً: اجلس إلى جانب من ترى مصلحتك عنده..!!. فإذا استشرى التعقيد وضربَ بجذوره في أعماق الجسد الاجتماعي لم يسهل اقتلاعه إلا بمنهجيةٍ صارمة، ومتابعةٍ حثيثةٍ. يقول أحد وزراء التنمية العرب: "كيف أضع للمشكلة حلولاً سريعة، الفساد موجود وأسبابه معروفة، منها التعقيد في الإجراءات، مما يعطي الموظفين ضعاف النفوس الفرصة لابتزاز المواطنين والمطالبة بالرشوة".

يقول أحد الراغبين في ممارسةِ نشاطٍ تجاري: ما إن أرسلتُ رسالة إلى إدارةِ منطقةٍ حرةٍ في دولةٍ مجاورة حتى جاءني الرد على النحو التالي: سيتم الرد على استفسارك في ظرف ساعتين فإن لم يصلك الرد فيمكنك تحويل الاستفسار مباشرة إلى المدير"، هنا تكمنُ أهمية النظام المسهل للإجراءات الإدارية، وكفاءة القائمين على إدارته.

وما لم يتم علاج التعقيد في المصالحِ بتنقيةٍ أنظمة العمل وحلحلة المعوقات، وصرامة المراقبة، وتشديد العقوبة، فلن تنطلق عجلة التنمية في مسارها الصحيح، بل ستمضي ببطء شديد، لأن التعقيد قيد ثقيل لا تستطيع العجلة أن تنطلق وقد طوقها، وأثقل سيرها..! هذا الأمر يحتاجُ إلى: منهج واضح في كيفية التخلص من التعقيد، ومن ثم إرادة للتنفيذ، وقرار حازم للتطبيق، ومتابعةً حثيثة ودقيقة وفق جدول زمني.

تعقيدُ الإجراءات ثقلٌ أسفر عنه بطءٌ في جوانبَ حيوية في حياتنا، وليس من سبيل سوى إلى تبسيط الإجراءات، والقضاءِ على الروتين المعقد من أجل تخفيف الأعباءِ، وتحريك الاقتصاد بصورة تتواكب من رتم العصر، وإيقاع المتغيرات، يقول أموس ألكوت: كلما قللت من الروتين، نعمت بمزيد من الحياة".

تعليق عبر الفيس بوك