يوميَّات على عَجَل

مريم العدويَّة

دائماً يا يُداهمني الوقت وثمةُ هواجس لا تقفُ عن الثرثرةِ على قمةِ رأسي، شخوص القصة التي عششت عصافيرُها على رأسي منذُ أشهر تطاردني؛ التأجيلُ وعدٌ غير مقبول في شريعةِ الكتابة. أُجدد العهد لذات، في نهاية الأسبوع سنجتمع ونتحدث عن كل شيء، مُضحكٌ هذا الأمر! قائمةُ من الفروض تجعلني دائماً أتجاهلُ وعدي لذاتي، وأمضي وكأنني لا أراني؟!

تتكاثرُ الحروف في رأسي، تنعقُ الأفكار، وتزدحمُ القصص وأشباه القصائد وما زلتُ أتعللُ بالوقت وبالفروض الأكثرَ جدوى من الكتابة! الأرقُ والأزيزُ الذي ينخرُ أذنيّ يجلدني تماماً كما خططت الهواجس للانتقام من شخصي، فلا شيء يوقف تلك الذات عن الثرثرة أينما يممتُ وجهي.

أحاول بلا جدوى إطفاء شخوصُ اللاواقع؛ لأشعل أضواء شخوص واقعي، إلا أن شخوص القائمة الأولى يسكنون النبض وامتلأُ بهم، بينما شخوصُ القائمة الثانية يحتاجونَ إلى سمسارِ مراوغ ليبادلهم الصوت والصورة!

الثرثرة لا تأريخ لها، كلما أطلقتها تخطفها الريح في مهبها نحو الغياب. وحدها الكتابة من تُبقي على صورة الوجع/الأمل في ذاكرة الخلود. تُرسل لي صديقة لم أرها منذُ مدة رسالة شوق، أعلمُ تماماً بأن ثمةُ ثرثرة تُعبأُ ذاتها، نلتقي وتكون هي ملزمةً على البوح أو الاختناق لا خيار ثالث لها، وأكون بالتالي ملزمة على الاستماعِ لحروفها المنكسرة والباهتة، وعليّ أن أفهم ما وراء الكلام وأبدي الرأي الذي تعرفهُ هي جيداً.

يُنهكُنا الجري خلف أضواء الحياة، نستأذنُ الأيام؛ لنخلع عن كاهِلنا متاع الأحلام بسخرية تقفز الأحلام عنّا وتمضي إلى الخطوةِ الأخرى من أعمارنا؟! كلما بحثتُ في الكُتبِ التي يعييني فهمها عن ما يمنحني حكمة أمي، أعودُ بصفر اليدين وأتقزم كالمعتاد أمام جمالكِ يا أمي.

وفي حوارِ مع صديقة أخرى، قالت لي بأن عزاءها في كل وجع الانتقام، صمتتُ، أكملت: إن لم أنتقم سأفقدنيُ وأستحيل إلى شيء... لا يشبهُ إنساني، صوتُ بداخلي تمتم وبالانتقام يا جميلة ستخسرين إنسانكِ وإلى الأبد.

وخز آخر...

أخشى من الصلاةِ على محرابِ الشعر؛ لشعرِ قداسة تُبقي نازع كتابة الأبيات مؤجلاً دائماً، ولا وقت لإكمالِ رواية يتيمة، والقصص القصيرة تتناسل كبكتيريا مرعبة ومع الوقت تحيلك إلى آلة مترجمة لسيل من الثرثرة لا يتوقف، هل عليّ أن أراوغ بالمجازات واليوميات إذن؟!

سمعتُ ذات يوم حكاية لم تحكها لي جدتي وهي تجدلُ ضفيرتي في الحلمِ تقول: كان هنالك كاتبُ لا يملكُ شَعرا منسدلا ولا بذلة كلاسيكية ولا قبعة أو وشاحا، لا يحبُ شرب الشاي ولا القهوة، ولا يرتاد المقاهي ولا يحب سماع سيمفونيات بيتهوفن ولم يقرأ سوى حروف مخيلته، كتب ذات يوم قصة عن رجلِ ينام فيأتي إليه الحلم ويمصُ دمه. قرأ قصته مرات، استوطن الأرق عالمه، بات يخشى أن ينام؟!

وعن صديق لهذا الكاتب، سمعتُ حكاية أخرى من جارتنا العجوز ذات العيون المنطفئة، التي أخبرتني عنها يوماً، بأنها داست في شبابها على ابن الجنّية فانتقمت منها الجنّية بأن رضعت صغيرها من ماءِ عيون العجوز حتى جفت وانطفأت، قالت لي العجوز التي زرتها في الحُلم: بأن صديق الكاتب الأول الذي امتص الحلم دمه كتب ذات يوم قصة تحكي عن امرأة وجارها الذي يزورها في الليل ويتهمها بالعهر في الصباح، أرسل القصة إلى ملحق ثقافي تابع لجريدة محلية، عندما قرأ القصة على الموقع الإلكتروني انتابهُ الفزع ماذا لو أنّ جاره والمرأة عرفوا بأمر القصة؟ رسم له خياله الموغلُ في التراجيدية قصة استدعاء الادعاء العام له ودخوله إلى المحكمة، خرج لشارع واقتنى الجريدة، سمع رجلان يتهامسان ومرّ عليه جارهُ ولم يسلم عليه، الجدير بالذكر أن الجريدة لم تكن تصل نسختها إلى قريته ولم يكن يقرأها إلا بعض محرريها وأصدقائهم.

نقرة أخيرة...

أخبرتني صديقة بأنَّ الدكتور المحاضر لا ثقافة له ومتعصب لرأيه يدَّعي بأن العلم وسيلة وليس غاية فلم انبسُ ببنتِ شفه.

وتجادلت مع أخي عن كون القراءة فرض يجب ممارسته في كل فروع الحياة، لم يقتنع ولذتُ بالصمت.

وفي حوارِ آخر مع أختي أكدت لي رأيها بقولها يتوهمون النجومية ويثيرون الضوضاء على وقع لا شيء والأغبياء يصفقون لهم ويُصيرونهم نجوماً. أذكرُ بأنني بقيت صامتة وثمة ثرثرة لا تتوقف من المرأة التي كُنتها في تلكَ الليلة.

تعليق عبر الفيس بوك