التنافسيَّة.. ضرورة أم ترف؟

د. سعد بساطة

برز تعبير "التنافسية" قبل زهاء عقود ثلاثة من الزمن.. وبسرعة مذهلة، تحول من مجرد لفظة متداولة إلى هدف تتسابق الأمم بغية الوصول لأحسن النتائج على سلمه. ويكفي لمعرفة أهميته أن الولايات المتحدة صرحت بأن "هبوطها ولو درجة على سلم التنافسية... موضوع جد خطير ويمس اقتصادها علاوة على أمنها القومي".

ولكن بداية: ما هي "التنافسية"؟.. بالتعريف: هي تفوق كيان ما على أقرانه ببيع سلعه/خدماته، والبعض يعرفها هي قدرة الدولة على اختراق أسواق جديدة بالرغم من المنافسين، ويختزلها بعض الاقتصاديين بكلمات بسيطة مختصرة: وصول الدولة بمواطنيها للمزيد من الرفاه، في حين هي بحسب منتدى دافوس الاقتصادي:"القدرة على توفير بيئة ملائمة لتحقيق معدل نمو مرتفع ومستدام".

عرض مايكل بورتر هذا المفهوم في ثمانينيات القرن الماضي، حيث ألَّف العديدَ من الكتب والمقالات في مجال الميزة التنافسية للدول، والمنافسة. وبات يُعرف كأب لمدرسة الإستراتيجية الحديثة؛ وتم تدريسأفكاره بكليات الأعمال حول العالم؛ وقد أعادت أعماله تعريف التفكير حيال مسألة المنافسة.

بالطبع: هذا لا يعني أنه قبل بورتر لم تكن هنالك منافسة، ولكنها كانت غير متبلورة كنظرية؛ ((فكلنا نذكر أول منافسة في التاريخ: بين قابيل وأخيه هابيل؛ على نفس الأنثى))! ولطالما تنافست أساطيل إسبانية وبريطانيا العظمى في العصور الوسطى على المستعمرات! والتنافس المحموم اليوم بين بيبسي كولا وكوكا كولا لجذب مزيد من الزبائن لاحتساء زجاجة المرطبات التقليدية!

وأكثر ما يركز عليه بورتر في أهدافه هو الكيفية الواجب اتباعها من قبل مؤسسة أو دولة ما لبناء ميزة تنافسية وتطوير إستراتيجية لها.. يطرح بورترالقوى التنافسية ضمن إطار تحليلى يستخدم لتقييم إستراتيجيات الأعمال والأسواق؛ وذلك ضمن خمس قوى؛ هي: تهديد المنتجات البديلة، وتهديد دخول منافسين جدد، وحدة المنافسة من الخصوم، والقوة التفاوضية للعملاء، والقوة التفاوضية للموردين.

وهنا نطرح تساؤلاً: هل نتكلم عن تنافسية دولة ذات كيان؛ أم عن مؤسسة تجارية ما؟والجواب: وهل هنالك فرق؟ فالدول تتعامل مع بعضها كالمؤسسات المتنافسة، فإيطاليا تروج لإنتاجها من زيت الزيتون؛ وكذا تفعل إسبانيا، تسوِّق فرنسا السياحة في معالمها وكذا تفعل بريطانيا، أمريكا تدعو للدراسة في جامعاتها، وتكاد تبزها في ذلك كندا، أليست هذه تنافسية؟ الروس يعملون دعاية بغية بيع أسلحتهم والغرب يمارس الشيء نفسه! ألا يحصل الأفضل بينها: على قصب السبق؟ وهو الأقدر على تسويق منتجاته/سلعه، ألا نرى هذا في دول الخليج؟ البحرين تجذب السياحة البينية من السعودية، والإمارات تروج لنفسها كبلد التسوق بواسطة مهرجاناتها؛ السلطنة ذات دار الأوبرا الراقية، ومحطات الموسيقى الكلاسيكية؛ وجامعة السلطان قابوس الرفيعة السوية؛ وتقاليدها السلطانية العريقة: ألا تعلن للعالم عن كونها بلدا منافسا في مجالي الثقافة والعلم؟!

ولكن، لماذا نتجشَّم عناء قياس متحولات والقيام بوضعها في معادلة وإدخالها في "الصندوق الأسود" في دافوس/سويسرة؛ وانتظار إطلاق التقرير السنوي؟

المبرر واضح: انتظار التقييم ورؤية النتيجة السنوية؛ وبالتالي التوثق من صحة السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تتبعها الحكومة؛ وضرورة تعديلها إن اقتضت الضرورة للوصول للنتائج الأمثل.

لنبدأ القصة من أولها، من "دافوس": هي مدينة سويسرية صغيرة تقع على نهر لاندويسر اشتهرت منذ 2004 بوصفها البلدة المستضيفة للاجتماعات السنوية للمنتدى الاقتصادي العالمي ( world economic forum) الذي يجتمع فيه نخبة رجال السياسة والأعمال من دول العالم للتباحث بقضايا سياسية واقتصادية معينة. ومنذ القرن الثامن عشر، أصبحت وجهة الأثرياء والمرضى الباحثين عن العلاج الطبيعي، لمناخها الفريد الموصى به من قبل الأطباء؛ وكان من المشاهير الذين قطنوها: الأديب الإنجليزي روبرت لويس ستيفنسون(وقد كان يعاني من مرض السل(، وكذلك الروائي الشهير آرثر كونان دويل(مبتكر شخصية شارلوك هولمز(.

أما "منتدى دافوس"، فهو منظمة غير حكومية/لاربحية مقرها جنيف/سويسرا، أسسها أستاذ الاقتصاد كلاوس شواب في 1971؛ لتلاقي النخب لألف من ممثلى الشركات المتعددة الجنسيات الكبرى (نستلة ونايكى وميكروسفت..)، والقادة السياسيين لمناقشة المشكلات الاقتصادية والسياسية العالمية وحلولها. يعقد المنتدى اجتماعاته السنوية في دافوس؛ حيث توضع الخطط والمشاريع الاقتصادية المشتركة، بخلق مناخ يسمح بالاستثمار بما يتطلبه ذلك من إصلاحات. وعلى الرغم من أنه "منظمة غير حكومية/لاربحية "، إلا أنَّ شروط عضويته تحتم: أن لا يقل دخل الشركة عن مليار دولار في السنة، إلى جانب اشتراك عضوية سنوى 12.500 ألف دولار، والاشتراك بالمؤتمر السنوى 6.250 ألف دولار، وللاشتراك في وضع أجندة المؤتمر: ربع مليون دولار. يحضر المؤتمر السنوى لفيف من النخب الاقتصادية ورؤساء الحكومات وبعض منظمات المجتمع المدني المختارة إلى جانب بعض المحامين والصحفيين والأكاديميين المختارين بعناية.

ولكن كيف وأين يجري حساب مؤشر التنافسية؟.. يتم ذلك عبر استمارة فيها العشرات من التساؤلات حول (التعليم/ الصحة/ مؤسسات الدولة/ القضاء/ المجتمع المدني...إلخ)؛ ويتم توزيعها على مائة شخص مختار -في كل دولة مشتركة- بحيث يراعى بها(التوزيع الديموغرافي، تمثيل الأنشطة الرئيسية، شمولية السن والثقافة والجندر) والأهم منح الرأي الصريح وعدم المحاباة أو التحامل! تأخذ الاستمارات طريقها لاحقاً (كما تفعله مثيلاتها من 144 دولة) إلى سويسرا ليتم تحليلها بدقة ضمن حاسوب عملاق، ويجري إعطاء "عوامل تثقيل" وفق معادلات جد معقدة؛ فمثلاً درجة التقدم التقني في الدول المتقدمة تحسب بطريقة بينما في دول العالم الثالث يتم حساب مقدار نقل التقنية (Technology transfer).ومن ثم يصدر تقرير التنافسية العالمية السنوي بعد قياس التنافسية للبلد من خلال ثلاثة أركان تتضمن 12 ركيزة رئيسية تتألف من 114 مؤشرا فرعيا.

إليكم طرفة في ذات السياق: شعر التاجر بالقنوط من منافس افتتح دكاناً على يمينه مع لافتة كبيرة ((أفضل الصفقات))، وزاد يأسه بافتتاح دكان أكبر على يساره مع لافتة ((أرخص الأسعار))؛ هنا هدته قريحته للخلاص من منافسيه بضربة واحدة، فكتب على باب دكانه القابع بينهما: ((المدخل الرئيسي))!

تنافس فريق التجديف الياباني مع آخر من بلد نامٍ، وتدرب كلا الفريقين؛ نتيجة المباراة تغلب اليابانيون بفارق ميل واحد. جرى التعاقد مع شركة استشارات للتمحيص بالأسباب فوُجد أن الفريق الياباني لديه ثمانية مجدفين ورئيس واحد، بينما الفريق الآخر مجدف واحد وثمانية رؤساء! (بعد أسابيع من البحث والتحليل وملايين أنفقت تم الوصول لحل عبقري: إعادة "هيكلة" الفريق؛ حيث أربعة مدراء فرعيين؛ وثلاث مدراء أساسيين، وشخص للتجديف)؛ بعد الخسارة بفارق ميلين هذه المرة.. تم الاحتكام للشركة الاستشارية: التي أوصت بطرد المجدف لأدائه الفاشل؛ ومنح مكافأة للرؤساء بسبب انكبابهم على عملهم وطلبهم تصميم قارب جديد!

ألا يحصل هذا أحياناً -وبشكل مرير- في واقع الأمر؟

نعود لتقرير التنافسية العالمية (2015-2016): حيث حافظت سويسرا على ترتيبها المتقدم في المركز الأول للعام الرابع على التوالي كأكثر دول العام قدرة على التنافسية، تلتها سنغافورة في المركز الثاني ثم الولايات المتحدة في المرتبة الثالثة، فيما تراجعت فنلندا من المركز الرابع إلى الثامن، وفيما يتعلق بترتيب الدول العربية فقد صعدت قطر إلى المرتبة الأولى عربيا و14 عالميا، وبذلك تسبق الامارات التي جاءت في المركز الثاني عربيا والـ17 عالميا متراجعة من المركز 14 في التقرير السابق، والسعودية بالمركز الثالث عربيا والـ25 عالميا، وحلت الكويت بالمركز الرابع عربيا والـ34 عالميا، ثم البحرين بالمركز الخامس عربيا و39 عالميا.

أما عن سلطنة عمان: فقد تراجع ترتيبها 16 مركزاً لتصل إلى المرتبة 62، مقارنة مع المركز 46 في العام الماضي. وقد حصلت السلطنة على المراكز ما بين (111 و120) في مؤشرات إنفاق الشركات على البحث والتطوير والمركز وتوفر خدمات البحث والتدريب محليا والقدرة على الابتكار وجودة مؤسسات البحث العلمي والكفاءات التسويقية للشركات وعدد الموردين المحليين.

كما حصلت على المراكز ما بين (101 إلى 110) في مؤشرات توفر المهندسين والعلماء وجودة النظام التعليمي (القدرة على تلبية حاجة السوق) وصرامة حماية المستثمرين وانتشار الملكية الأجنبية وجودة تعليم العلوم والرياضيات والأجور والإنتاجية.

أكدتالهيئة العامة لترويج الاستثمار وتنمية الصادرات (إثراء)، إن ما ورد في التقرير من تراجع سلط الضوء على ما يجب تطويره في عدد من الجوانب من أجل تحسين مستوى تنافسية السلطنة وبناء اقتصاد قائم على الابتكار.

نستعرض هنا: المؤشرات الاكثر تحسناً؛ وهي: مؤشر حجم الأسواق الخارجية الذي تحسن 12 مركزا عن تقرير العام الماضي، ومؤشر حجم الصادرات كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، ويعزى تحسنها إلى مساهمة القطاع الخاص العماني.

المؤشرات الأكثر تراجعاً؛ وهي: مؤشر أثر القواعد التجارية على الاستثمار الأجنبي المباشر؛ كما تراجع محور كفاءة سوق العمل ومؤشرات عبء التشريعات الحكومية ومدى التحكم في الأسواق ودرجة التجاوب مع العملاء وكفاءة سياسات مكافحة الاحتكار.. ((لمن يهتم بتفاصيل الأرقام فله متابعة الموقع التالي:http://omandaily.om/?p=274637)).

ومن الأسباب التي أدت للخلل: بطء سياسات إصلاح الهيكلية طويلة الأمد لتعزيز مستوى الإنتاجية وتحرير المواهب الريادية، قد أدى للإضرار بقدرة الاقتصاد على تحسين مستوى المعيشة، وتأمين المرونة اللازمة لمواجهة موجات الركود الاقتصادي في المستقبل.

ختاماً: وصفنا مشاكل ولم نطرح حلولاً، فرُبَّ سائل يسأل: ما العمل؟ والإجابة تكمن في ذات التساؤل الذي طرحه كاتب عربي يشعر بنفس الألم: "ماذا ينقصنا لكي نصبح مثل الدول المتقدمة؟"، بالرغم من أنه لدينا الكثير: الموارد الطبيعية، القوة البشرية، الموقع الممتاز.. ولكن.. للأمانة والشفافية ينقصنا الكثير، وأولها: التعليم.. والتعليم ثم التعليم.. إنه أخطر شيء ينقصنا وهو الذي أسهم بالفعل في تقدم الصين وتطورها، هذا التطور المذهل هو وجود نخبة علمية واعية مكرسة نفسها للعلم وتطوير بلدها. ونحن لدينا نخب علمية وثقافية أغلبها فسد ولا تفعل شيئا إلا من أجل الدعاية والحصول علي منصب؛ نحتاج أن نتعلم من الصين كيف طورت التعليم وبعثت آلافا من أبنائها لعقر دار الأعداء، الولايات المتحدة وأوروبا، وحتي اليابان، ليتعلموا منهم وينقلوا كل ما هو جديد في العلم والطرق والتخطيط الحضاري والمعماري....وغيرها.

وفي النهاية، الذي يهمنا بموقع السلطنة على سلم التنافسية هو المقارنة: أين كانت وأين أصبحت ولماذا؟ وبالتالي تطبيق سياسات ناجعة لتحسين الوضع، فحياة الأمم: عبارة عن منافسة دائمة بغية الحصول على قصب السبق!

تعليق عبر الفيس بوك