أنا مسجونة

أمل عامر السعيدية

في يوم من الأيام القائظة، توقف مصعد السكن الجامعي بينما كنت استقله بغرض النزول إلى الطابق الأول حيث يمكنني الخروج إلى موعد مع أصدقائي، سرعان ما انطفأت الكهرباء داخل المصعد، هذا يعني أنني صرتُ وفي لحظة واحدة جزءاً من ذلك الظلام الكالح الذي لفّ المكان بسرعة البرق. شعرت بالاختناق. كنت لوحدي، أحسست بأنني سأموت لا محالة، لا أعرف كيف فكرت بالضغط على زر الطوارئ، ولم أكن أثق بأنّ أحداً ما سيهتم بشأن هذا الإنذار خصوصا وأن مجموعة من الطالبات تعودن على الضغط على الزر من باب التسلية وإثارة المشكلات مع إدارة السكن، بقيت عالقة هناك لنصف ساعة تقريباً، لم تتحمل قدماي الوقوف، خصوصاً وأنني أعاني من مشكلة في التنفس وانخفاض الضغط . عندما تمكنت من الخروج، عرفتُ أنني مررت بدرس قاسٍ لن أتمكن من تجاوزه ما حييت، لقد بقيت تلك اللحظات تشكل هاجساً بالنسبة لي، ليس هذا فحسب، أصبحت أفكر بالمصاعد الكثيرة في حياتنا، وأنا هنا لا أعني المصاعد حرفياً، وإنما السجون التي لا توفر فرصة في ضمنا إلى عتمتها في كل أنحاء العالم، كانت فكرةً أو تجربةً معاشة، أذكر أنني عندما قرأت (تلك العتمة الباهرة) للطاهر بن جلون، وعن السجن السياسي الذي تعرض له مجموعة من المغاربة ولاقوا فيه ما لاقوا من عذاب، أحسست بأنني خضت نفس التجربة في مكان آخر، كذلك الحال عندما قرأت رواية (القوقعة) لمصطفى خليفة، قد تكون هذه السجون السياسية تجربة بليغة تماماً عن هذا الشعور، الشعور بأنك ملاحق ومحتجز، تجارب واضحة، نفهم ما ترمي إليه وعلى ماذا تقوم، لكن المرعب في نظري هي التجارب التي نقاسيها لكنها ليست واضحة أبداً، كأن تكون محتجزاً في وظيفتك، محتجزا في علاقاتك الاجتماعية، محتجزاً في بلدك، وأعني بالاحتجاز هنا، أن تكون موثقاً إلى أشياء لم تخترها ولا تود الاستمرار في الارتباط بها. قد يقول قائل، إنني أبالغ عندما أقول إن هذه التجارب أشد معاناة من أن تكون تحت وطأة الحرب أو السجن السياسي وما إلى ذلك، لا استطيع القول بأنّها كذلك لكنني أشعر أنها في نفس المستوى، فلنشاهد مثلاً بطل فيلم "طعم الكرز" للمخرج الإيراني عباس كيارستمي، البطل يمتلك المال، ويأخذنا في رحلة بسيارته لأحياء فقيرة في إيران، نبحث معه عن متطوع لمهمة عاجلة تخص هذا الرجل الغني، هذا المتطوع معدم، لا يمتلك المال وسيتبرع بأداء المهمة لتتغير حياته، عندما يبحث الرجل عن هذا المتطوع ويجد شاباً كردياً مجنداً في الجيش، فقيرًا لا يمتلك المال ويبتعد عن مزرعته التي عمل فيها في وقت سابق، نتعاطف مع هذا الكردي، لكننا حتى اللحظة لم نكتشف ما هي المهمة التي سيتطوع لتنفيذها لصالح ذلك الرجل الغني، وكيف سيكسب الكثير من المال جراء فعلها، عندما يسأل الكردي الفقير الرجل عنها، نكتشف أن الرجل الغني يبحث عن من يدفنه حيّاً في حفرة في الجبل، لأنه لا يريد مواصلة العيش، يُريد أن ينتحر بهذه الطريقة، يترجى الرجل الشاب الكردي لأداء المهمة ويعده بالمال، في لحظة واحدة نشعر أن المُعدم الحقيقي، هو الرجل الغني، وهو يمتلك عوزاً وحاجة يفوق بها حاجة ذلك الشاب الفقير، إن فكرة كهذه لهي صادمة، الأمر لا يرتبط بالمال، ولا يوجد لها معايير ثابتة نحتكم إليها، وحدها تجربة الإنسان الوجدانية تحدد فهمه، وقبوله لما يحدث في حياته . لذلك نعم، قد يكون ذلك المصعد الافتراضي الذي يحتجزك بمثابة سجن سياسي .

أحفظ لمحمود درويش قوله "السجن كثافة . ما من أحد قضى ليلة فيه إلا درب حنجرته على ما يشبه الغناء، فتلك هي الطريقة المتاحة لترويض العزلة وصيانة كرامة الألم. أن تسمع صوتك المبحوح يعني أن آخرك قد سامرك وأسر لك بأخبارك الشخصية، في غرفة كلما ضاقت اتسع ما ورائها واحتضنت العالم بشغف المصالحة" . أنا أدرك تماماً أنني أمام خيارات لا أحبها، وأنني مضطرة لدفع نفسي إليها، لكنني سأتقبلها بينما أغني بالصوت المبحوح الذي عناه درويش. والغناء بالنسبة لي، حب الشريك، وصل الأصدقاء، القراءة، البر بالوالدين، السفر، ومشاهدة الأفلام، قل لي كيف تغني أنت في سجنك؟.

Amalalsaeedi11312@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك