ليلة السقوط الكبير للتعليم

د. سيف بن ناصر المعمري

يؤسفني أن أقول للجميع سواءً مهتمين أم مجرد مُتابعين للشأن التعليمي أننا نمضي في طريق مسدود في التعليم، وأنّ المعنيين قد اكتشفوا منذ سنوات أنّ التعليم "يسقط" كل عام ويتدهور أمام أعيننا، وهناك آلاف المؤشرات التي ربما لن يُصدقنا أحد لو ذكرناها، ولكن حتماً أن كثيرين لا يستطيعون إنكار المؤشرات العالمية التي لا تزال ترصد هذا التدهور عامًا تلو الآخر سواء من خلال نتائج الطلبة العمانيين في المسابقات العالمية، أم من خلال تقرير التنافسية العالمية الذي جعل من التعليم مؤشراً مهماً جداً في تصنيف قدرة (144) دولة على التنافسية في المجال الاقتصادي، ولقد جاء التقرير الأخير ليؤكد لنا أنّ التعليم يواصل سقوطه الكبير .. محدثاً سقوطاً كبيراً على المستوى العام لترتيب السلطنة لخصه رئيس التحرير في مقاله الأسبوع الماضي تحت عنوان "عُمان والتنافسية" حيث قال:" السلطنة تدرجت هبوطًا من المركز الـ 32 في العام 2012، إلى المركز الـ 33 في العام الذي يليه، ومن ثم تراجعت إلى المركز الـ 46 في العام الماضي، وصولاً إلى 62 في تقرير التنافسية لهذا العام"، حيث كشف هذا التقرير أنّ أهم نقاط الضعف التي تؤثر في تنافسية السلطنة هي انخفاض جودة التعلم وتدني مخرجاته وعدم تلبيتها ليس لحاجات سوق العمل فقط ولكن عدم تلبيتها لحاجات البلد في القطاعات المختلفة، ولم تكن نتيجة مؤشر التعليم التي كشفت عن حلول السلطنة في المركز (88) من بين (144) دولة صادمة لي كمتابع ومحلل لواقع التعليم في السنوات الأخيرة، لأنّ هناك خللا بنيوياً أصاب مؤسسات التعليم خلال السنوات الأخيرة التي يفترض أنها "سنوات التطوير" أو إن جاز لي التعبير هي "سنوات إعادة الفردوس المفقود" لقطاعات التعليم كما عبّرت الشعارات والخطابات التي رفعت منذ خمس سنوات تقريبًا، وها نحن بعد كل هذا الانتظار، وبعد كل هذا "الحراك" من أجل الحفاظ على "نقاء" الساحة التعليمية، نخسر كل هذه الرهانات، وتتبدد كل هذه "الأحلام"، ويسقط التعليم قبل كل القطاعات، على الرغم من أنّ الأصل فيه أن يقود لنهوض هذه القطاعات.

ما الذي حدث حتى نحصد الهشيم بعد كل هذه السنوات من التطوير للتعليم؟ هذا سؤال فات آوان طرحه، فالكل يعرف أن التعليم يمر بأزمات عميقة بنيوية في إداراته وبناء سياساته، وأجنحته الخاصة التي يبدو أنّها كانت القشة التي قصمت ظهر "البعير" التعليمي، فالتعليم كان يفترض أن يظل قطاعًا سيادياً لا قطاعًا يفتح على مصراعيه ليلعب فيه أولئك الذين أفسدوا الحياة الاقتصادية خلال هذه السنوات، وأضعفوا من إمكانية قدرة البلد على المنافسة، بل إنهم أوصلوها إلى طريق مسدود لولا لطف من الله ووعي حتمته الظروف في ذلك الوقت، ولأنّ هذا التقرير يعتمد على منهجية تقوم على استطلاع آراء وانطباعات رجال الأعمال والمستثمرين بنسبة (72%) من مجمل التقييمات، مقابل (28%) خصصت للبيانات والإحصاءات، تثار هناك بعض الحقائق المهمة والتي أولها أن هؤلاء المستثمرين يمتلكون ما نسبته (48%) من مؤسسات التعليم العالي، وبالتالي هم يقرون بضعف هذه المؤسسات التعليمية الخاصة التي يمتلكونها، ويدركون أنّ الاستثمار الخاص في مجال التعليم يعتبر قرارًا كارثيًا اتخذ في ذلك الوقت ولم يعد بإمكاننا أن نفعل شيئاًلأن هذه المؤسسات يملكها أفراد في الحكومة أو يتشاركون فيها مع رجال أعمال ومستثمرين، أي أنّه لا سبيل لتحقيق الجودة في ظل هذا الواقع، وكل المناشدات والتقارير والتحليلات وشهود العيان الذي يحكون قصصهم عن حياتهم الدراسية والتي كان آخرها لطالب ماجستير أخبرني خلال الأسبوع أنّه "رفع قضية" على الجامعة الخاصة التي جعلته يندم على القرار الذي اتخذ لتكملة دراساته العليا، وقال بالحرف الواحد "أنا ومجموعة من زملائي ضحية" في نظام تعليمي خاص لا توجد عليه رقابة، ولكن هذا ليس فقط الجانب الوحيد المظلم في النظام التعليمي، ومن يطلع على مقالي في مجلة "شرق غرب" لشهري أكتوبر وسبتمبر تحت عنوان "التعليم في عمان: أزمات وتساؤلات" يستطيع أن يطلع على الأزمات المتعددة التي يُعاني منها التعليم والتي من ضمنها أزمة التطوير، وأزمة الإدارة، وأزمة البحث العلمي، وأزمة الإرادة، وأزمة التشريع، وهي أزمات تجعل المشهد مرتبكاً، وما يظهر أنه نظام تسير ووفقه هذه المؤسسات في إجمالها وهو عبارة عن فوضى ولدتها كل هذه الخطابات التي ظهرت خلال السنوات الماضية والتي لم تحمل بداخلها أي إرادة، وما تقوم به كل مؤسسات التعليم اليوم لا يمكن أن نعتبره تطويرا إنما هو محاولات يائسة لإدارة الفوضى في هذه المؤسسات وحصرها حتى لا يتعرف أحد على معالمها.

آن الأوان للقرارات الجريئة التي تُعيد للتعليم في عُمان هيبته، آن الأوان للقرارات التي تحمي التعليم من أن يتحول إلى ساحة للفساد المالي والعلمي والأكاديمي، فحين يتسمم إنسان عضويًا يمكن أن تعالجه لثلاث أيام كحد أقصى ولكن حين يتسمم فكرياً سنحتاج إلى زمن طويل ليس لعلاجه ولكن لعلاج تأثير ذلك على كثير من القطاعات الوطنية، ولا أعرف كيف السبيل لنا للخروج من هذا النفق المظلم وهناك تخدير يومي للذاكرة المثقلة بالإحباطات مما يعاش يومياً والذي وصلتني حوله كثير من الرسائل من قبل المعلمين والعاملين في مختلف قطاعات التعليم المدرسي والجامعي... والتي تعتبر شهادات من داخل هذه المؤسسات، يصرخ أصحابها المخلصون: ماذا نفعل؟ كيف نواجه هذا الواقع؟ وإذا كنّا نقاوم إلى متى؟ هل سنجد أنفسنا في نهاية المطاف ضمن فريق اللامبالاة الجماعي؟.

لا أعرف كيف نجيب هؤلاء الذين يتطلعون لأن يعيشوا "اللحظة المشرقة" للتعليم، اللحظة التي تعاد فيها الأشياء إلى أماكنها، يتطلعون إلى اللحظة التي تصبح فيها الروضة والمدرسة والكلية والجامعة مناطق سيادية لا يسمح لأيّ أحد بإدارتها أو التخطيط لها أو العمل فيها، اللحظة التي تعلي فيه هذه المؤسسات من شأن قيم "الانضباط"، و"النظام" و"الرقابة"، وتجعل أماكن التعلم أماكن لبناء الإنسان العماني الحقيقي وتقدم له الوعي الذي يحميه من كل ما يدور حوله من محاولات "الاستغلال" و"الاستغفال" و"تزييف الوعي".

لقد وصفت مجلة الدوحة في ملف لها بعنوان "إخفاقات المدرسة العربية" صدر في الشهر الماضي المدرسة العربية بأنّها "في الوقت الراهن في وضع مربك، فهي لم تحقق الطفرات التي خططت لها، ولم تستطع التحرر من الجدليات التي لم تنته، والتي استهدفت الشكل وتجنبت الخوض في العمق، ولم تنجح في تخريج نخب كما كان ينتظر منها"، فما الذي ننتظره من التعليم بعد كل هذا السقوط؟ هل ننتظر تكرار الإخفاق؟ هذه أسئلة نوجهها لمجلس الوزراء ربما تكون لديه إجابات تبعث على التفاؤل.

saifn@squ.edu.om

تعليق عبر الفيس بوك