وا إسلاماه...

زينب بنت محمد الغريبية

ما عُدتُ أطيق أن أفتح التلفاز على قناة إخبارية أو برنامج إخباري في قناة ما، فلا أخبار تسر عن بلاد المُسلمين والعرب، فهنا تفجير وهناك دمار، وما بين هذا وذاك أرواح بريئة تبدو وكأنّها مجرد أرقام تتزايد دون أيّ اكتراث لها، فهل أصبح دم المسلم أو العربي رخيصاً لهذه الدرجة؟؟ ما هو حقه على الدولة الإسلامية، وما مفهوم المواطن بالنسبة لهذه الدول، فكم من حروب طاحنة اليوم تدور رحاها بسبب تظاهر من أجل الحصول على الحق، وآخر يدافع عن كرسي يخاف عليه من الضياع، وفي سبيل ذلك تشعل النيران لتحرق الأخضر واليابس، في طريق اللارجعة، وفقدان الأمن بل والحياة بكاملها...

أين نحن من الدين الذي نحمله في قلوبنا؟ من الشريعة التي يفترض أن نمشي على هداها؟ ألا نعي ما معنى أن يضع الرسول الكريم -عليه أفضل الصلاة والسلام- حين وضع تلك الفلسفة الحياتية لتشكيل الوطن في وثيقة رسمية في المدينة المنورة عندما استقرت به الأمور هناك؟ وأسماها الصحيفة، كان ذلك منذ اللحظة الأولى لتأسيسالدولة الإسلامية في السنة الأولى للهجرة، وتأتي أهمية تلك الوثيقة من أنّها حددت القوى والفعاليات الاجتماعية في المدينةالمنورة على مختلف مكوناتها القبلية والدينية حقوقاً وواجبات تجاه هذه الدولةالوليدة، فمن المعروف أنّ المدينة المنورة التي هاجر إليها الرسول (صلى الله عليهوسلم)، كانت تتعدد فيها الانتماءات القبلية والدينية، فهي تضم قبائل عربية كالخزرجوالأوس وبني عوف وبني النّجار وهم من أهم قبائل الأنصار، إضافةإلى المُهاجرينالمسلمين من قبيلة قريش وقبائل عربية أخرى، كما تضم مجموعات قبلية تدين بالديانةاليهودية، وأفرادًا لم يدخلوا الإسلام وبقواعلى شركهم من مختلف القبائل.

حددت الصحيفة العلاقات بين السلطة وأفراد المجتمع داخل المدينة على تعدد مشاربهمالدينية والقبلية، ورسمت علاقات المجموعات مع مؤسسات الدولة الناشئة، وبينتالواجبات والحقوق لكافة أفراد الدولة (الأمة)، من خلال دستور مكتوب باسم الصحيفة،يرسخ مفهوم المواطنة في هذه الدولة؛وبذا تأسَّست الأمَّة في أوَّل دستور(الصحيفة) لهذه الدولة على التعدديَّة الدينية‏، وعلى المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين المتعدِّدين في الدين والمُتحدين في الأمَّة والمواطنة‏، فنصّ هذا الدستور على أن اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم‏، وأن لهم النصر والأسوة مع البر من أهل هذه الصحيفة‏، ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين،على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم‏، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة‏، وأن بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم، هكذا تأسست الدولة في ظلِّ المرجعية الإسلامية منذ اللحظة الأولى‏.‏

تأسست الدولة بتحالف مع اليهود، فكيف بنا نحن اليوم نتحارب وكلنا مُسلمين، فقط لأنّ هذا من مذهبي وذاك من مذهب آخر، أفلا نتعايش في ظل وثيقة الإسلام الملتزمة بالسلم والأمان من أجل الوصول إلى دولة القوة، أعني بها دولة المُسلمين، التي إذا اجتمعت على اختلاف أقطابها واستقوت بدينها، وبأس رجالها لبلغنا الذرى، بل نحن صرنا إلى العكس من ذلك، إنما نشد أنفسنا بالفرقة والتناحر فيما بيننا، لنجد أنفسنا في أوهن عصورنا، مما يزيد مطامع أعداء ديننا، ليكيدوا لنا ظاهر الفتن وباطنها، ونصير إلى ما نحن عليه الآن، وأيما خوف أن يكون القادم مزيدًا من الانتكاس نحو الهاوية، التي لا تقود إلا إلى ضعف أكبر، وهشاشة بنى لا يُمكن بأيّ حال أن نُشيِّد فوقها أجيالا قادمة.

وعلى حالنا هذا أصبحنا نحن كمواطنين في البلاد الإسلامية مواطنين رَخُصَ دمهم، واستهينت أوراحهم، واستبيحت عروضهم، ليس من أجل شيء سوى أننا بعدنا عن أصل ديننا في منح الحقوق والعدالة من ناحية، وفي إحلال التعايش السلمي بما تضمه المجتمعات من اختلافات دينية ومذهبية وفكرية وعرقية، فعندما نرى المسلمين وقد شردوا من ديارهم التي كانت آمنة ليستغيثوا بمن لا يلهج لسانهم الناطق بذكر الله، من أجل البقاء على الحياة فقط، دون الحلم بمطلب أكبر من ذلك..

وعندما أعود إلى الأصل أجد أن الإنسان في الرؤية الإسلاميَّة هو مطلق الإنسان‏، والتكريم الإلهي هو لجميع بني آدم‏ {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: ‏70]. والخطاب القرآني موجَّه أساسًا إلى عموم الناس‏، ومعايير التفاضل بين الناس هي التقوى المفتوحة أبوابها أمام الجميع {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: ‏13]‏. بل قد جعل الإسلام الآخر الديني جزءًا من الذات‏، وذلك عندما أعلنَ أن دين الله على امتداد تاريخ النبوات والرسالات هو دين واحد‏، وأن التنوُّع في الشرائع الدينيَّة بين أمم الرسالات إنما هو تنوُّع في إطار وحدةِ هذا الدين {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة: 48‏].

فالمواطن في الإسلام هو كل فرداتخذ أرض الإسلام له وطناً سواء كان مسلماً أو غير مسلم من أهل الكتاب أو أهل الذمةوهناك فرق بين أهل الكتاب وأهل الذمةفأهل الكتابأصحاب الديانات السماويةكاليهود والنصارى أماأهل الذمةومفردها ذِمِّي فهو الذي يدفع الجزية مقابلعدم الجهاد مع المسلمين وقد يكون يهودياً أو مسيحياً أو مجوسياًأو غير ذلك ومقابل دفعالجزية يضمن له الإسلام الأمان على ماله ودمه وعرضه ويدافع عنه أبناء الإسلامويتمتع بجميع حقوق المواطنة كالمسلم، فلا أعلم اليوم على أي أساس يعرف الإنسان أو المواطن في الدولة؟ وعلى ماذا بني مفهوم المواطن لديهم؟ أيوجد شرع آخر غير ذلك الذي نزل به جبريل عليه السلام على النبي المصطفى، لينقذ به الإنسان على هذه الأرض ويرقى به إلى مرتبة الإنسان المُكَرّم، ليعمر الأرض أفضل تعمير بما يتناسب مع مستوى فكر البشر الذي خلقه الله تعالى عليه، لماذا نحيد عن الطريق لننزلق بأنفسنا في عالم الضياع الذي نعيشه اليوم، في حروب وتشرد وضعف وهوان؟ إلى متى سنظل هكذا؟ أننتظر من يأتي لينقذنا من ذلك؟ أم أن الخلاص بأيدينا نحن؟ والحل نحمله بيننا؟ فقط نعود إليه ونتفكر فيه وندرك كيفية المضي السليم عليه.

Zainab_algharibi@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك