مريم

عبيدلي العبيدلي

ربما أكون أول اثنين ممن حالفهما الحظ فوقعت أيديهما على نسخ من كتاب أخي الكريم فؤاد شهاب الموسوم "حبيبتي ابنتي سميتها مريم". وقد أكون من المتأخرين في عرضه، حيث سبقني لذلك زملاء وزميلات ممن عالجوا محتوياته بكثير من التمعن، وتناولوها من زوايا مختلفة.

أول ما لفت نظري في الكتاب كان العنوان، فقد خشيت أن تكون شابته زلة قلم، أو خطأ مطبعي، عندما استخدم الكاتب فعل "سميتها" بدلاً من أسميتها، حتى رجعت إلى قوله تعالى في سورة مريم "وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ". جرني ذلك إلى بحث عن أصل الكلمة، التي كنت أتوهم أنّها عربية أصيلة، كي اكتشف أنّ جذرها اللغوي عبري مأخوذ من اليونانية القديمة والمصرية أيضاً، حيث يذهب البعض إلى أنّ اسم "مريم (مشتق) من كلمة (ميريام) في اللغة المصرية القديمة، وهي مشتقة من كلمتين: (ميري) وتعني محبوبة، و(يام)،وكان استخدامها لدى المصريين للإشارة إلى الاسم الإلهي العبري (يهوه). وبناء عليه تعني كلمة (ميريام) المحبوبة لدى الله". آخرون يرون أن "كلمة (مريم) هي مؤنث الكلمة الآرامية (مار) وتعني (سيد) وعليه فتكون كلمة مريم بمعنى سيدة". ويرد في تفسير الألوسي أنّ"مريم بالعبرية: الخادم، وسميت أم عيسى به لأنّ أمها نذرتها لخدمة بيت المقدس". ومزيدا حول الاسم، فإنّ اسم مريم ينفرد بكونه السورة التاسعة عشرة في القرآن، والوحيدة فيالتي تحمل اسم امرأة.

بخلاف من سبقوني، سوف أتحاشى، قدر المستطاع العودة لمادة الكتاب، وسأحاول أن أكون عفوياً، تمامًا كما كانت "مريم شهاب" عفوية في ردة فعلها تجاه ما ألم بها، وعوضاً عن ذلك سوف استلهم الرسائل القصيرة (SMS) السريعة المكثفة والمبطنة، لكنها الغنية أيضًا بالمحتوى والأهداف، التي تلقيتها عند كل محطة من محطات الكتاب، متحملاً كل فهم خاطئ، ومجنبا المؤلف من تبعات قراءتي الخاصة للكتاب.

أول تلك الرسائل التي يبثها المؤلف، عند معالجة حالة مثل تلك التي واجهت والديها عندما اكتشفا مقاساة ابنتهما البكر من ضعف شديد في حاسة السمع هو أهمية القبول، دون الرضوخ، لقضاء الله وقدره. وشتان بين القبول والرضوخ. فبينما تعني الأولى الانصياع الجاهل لقضاء الله وقدره، تحث الأولى على عدم الامتثال الواعي، غير المساوم على الإيمان به جل وعلا، للمصيبة، وعدم الكف عن محاولات تجاوز انعكاساتها وتداعياتها. وعليه، فبينما يقود السلوك الأول الأولى نحو هاوية الاستسلام يدعو التصرف الثاني إلى التمرد، لكنه تمرد يعمه الإيمان، ويحضن في أحشائه الثقة بتحقيق الأهداف المرسومة والنتائج المرجوة، دون المساس بقدرة الخالق، وامتحاناته. هذا التزاوج الجدلي بين القبول دون الخضوع هو مفتاح سر النجاحات التي يقف وراءها العمالقة من ذوي الاحتياجات الخاصة. ومن يريد أن ينظم، كما فعلت مريم، إلى رهط العمالقة، عليه دفع ضريبة عالية من الصبر والمعاناة المشوبة بالبصيرة، والتصميم، والثقة في النفس، وفيمن يحيطون به.

أما ثاني تلك الرسائل فكانت ضرورة التمسك بالأمل، مهما كانت بداياته واهية، وطريقه غير واضحة المعالم في نظر الجميع، باستثناء من يصمم على أن يسلكها. والأمل الذي يدعو له المؤلف، يختلف عن ذلك الذي يدعي التحلي به بعض الآخرين غيره، فهو أمل واع ومنظم، لا يخلو من لحظات يأس، لكنها خاطفة لا تقود إلى الاستسلام. فالأمل الذي يمتلكه الفريق المحيط بـ "مريم"، وهي عضو فاعل فيه ونشط في اتخاذ قراراته، من طراز مختلف، يقتضي التحلي بالصبر، ويتطلب من كل فرد بينهم أن يتسربل في ثوب الثقة في النفس التي لا تهزها رياح الطوارئ السلبية التي تهب رياحها بين الفينة والأخرى، وبدون سابق إنذار، ولفترات قصيرة. وهكذا تسلك طريقًا طويلة ومتعرجة ومليئة بالمطبات غير المتوقعة، والمفاجآت المحبطة، قبل أن تنال ما كانت، وكان يصبو له الفريق المصاحب لها في هذه الرحلة الشاقة.

وعندما تصلنا ثالثة أثافي تلك الرسائل، نجد فيها دعوة ملحة متكررة، لمعالجة النوائب الشخصية في إطار البحث عن حل لمشكلة مجتمعية شاملة. فبقدر ما كان مطلوبًا محاربة الوحش الذي تسلل إلى أذني الفتاة الرقيقة مريم، كان الأهم من ذلك، دون إهمال حالة مريم ونيلها الاهتمام الذي تحتاجه وتستحقه، أن يأتي الحل في إطار التصدي للمشكلة التي لا بد وأن تعاني منها فئة، وليس فردا، من المجتمع. ويتطلب الانتقال من الخاص بأطره الضيقة، نحو العام بفضاءاته الرحبة اللامحدودة، نكراناً للذات أولاً، والتخلص من الأنانية الفردية ثانياً، والتمرد على "الأنا"، ثالثاً وليس أخيرًا. لحظة الانتقال تلك هي التي يصفها البعض بلحظة التحول النوعي في مسيرة المجتمعات. وفي حالة مريم هي انتقال إيجابي نحو الأمام. وهي سمة من سمات أفراد المجتمعات المتحضرة التي لا يكف أفرادها عن التقدم ولا تتوقف فيها عجلة التطور عن الدوران.

تنقلنا الرسائل الثلاث تلك إلى الرسالة الرابعة، وربما تكون الأخيرة لكنها تبقى الأكثر أهمية، حيث نجدها تحث قارئها لمواجهة المستحيل، أو بالأحرى الاحتيال عليه والالتفاف عليه بدلا من التصادم معه. فمحصلة التصادم، حتى عند الانتصار على المستحيل، تخرج الفائز من حلبة السباق، وهو منهك هو الآخر، ومن ثم، يبقى الانتصار في معركة محفوفا بمخاطر الانهزام في معركة أخرى قادمة تشنها العوامل التي ولدت حالة الاستحالة. ومن أهم مقومات النجاح التي تذيب عقبات ذلك المستحيل التمتع بالنفس الطويل القادر على الاستنجاد باستراحة المحارب بين الفينة والأخرى.

كلمة أخيرة لا بد وأن تقال، وهي أن تلك الرسائل لا تعدو كونها رؤوس أقلام، أو بالأحرى عناوين الصفحة الأولى، التي تغري القارئ المهني، وذلك البسيط على حد سواء كي يهرعا لاقتناء الكتاب من أجل قراءته. والصعوبة تكمن هنا في قدرة ذلك القارئ على ترك الكتاب قبل أن يصل إلى جلدة غلافه الأخير. فقد كتب الكتاب بمنهج السهل الممتنع، فجاءت قراءته مفيدة وممتعة في آن.

وخلاصة القول لا مكان لليأس في سفينة تستقلها مريم، وتسير أمورها ربة بيت مثل نادية، ويقودها ربان ماهر هو فؤاد.

تعليق عبر الفيس بوك