سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟(16).. "التأسيس والجودة"


د. صالح الفهدي

في هذا العام أكملت الأوركسترا السيمفونية السلطانية العمانية ثلاثين عاماً من تأسيسها عام 1985، حيث أصبحت واحدةً من أبرز السيمفونيات على مستوى العالم. هذا المستوى الرفيع لم يكن ليتحقق لولا التأسيس السليم. لقد أصبحَ عمر الرعيل الأول في الأوركسترا لا يقل عن أربعين عاماً وهم من أمهر العازفين الذين يناهزون نظرائهم في العالم لأنهم تأسسوا بمنهجية متدرجة استطاعت أن توصلهم إلى مستوى عالٍ من الجودة الفنية.

أضربُ المثل هنا مستهلاً حديثي عن التأسيس والجودة لأبين أن التأسيس هو المفتاحُ الأساسي للوصولِ إلى أقصى مدارج الإبداع والجودة. يقول(Gordon B. Hinckley): لا يمكن البناء على أساسٍ ضعيف، لا بد لك لكي تبني بناءً عظيماً على أساسٍ صلب".. لكن ماذا فعلنا في التأسيس والجودة؟! أرى في كثيرٍ من الجوانبِ فقدان التأسيس لأن كثيراً من المسؤولين حين يتبوأون مناصبهم يريدون نتائج فورية، سريعة؛ لأنهم يسعون إلى بناءٍ مجدٍ شخصي أكثر منه وطني، لهذا فالنتائج التي تأتي بعد سنين طويلة وإن كانت تؤسس بالصورة الصحيحة لا تخدمهم في هذا المسعى!

نبحثُ عن الجودةِ في التعليم لكننا لا نلتفتُ إلى التأسيس.. تأسيس المعايير الصلبة لاختيار المعلم اختياراً دقيقاً يتضمن الجوانب الفنية والشخصية والعلمية والنفسية...وغيرها. أما الدول التي لا نتحدث إلا عن تقديمها رواتبَ مرتفعة للمعلمين، فإننا نغفلُ تأسيسها السليم للمعلم منذ اختيارها الدقيق جدًّا عن المعلم الذي يتمتع بالسمات المناسبة ليكون معلماً ناجحاً.

كنا نمتلكُ مدارسَ ومعاهد تجارية، وصناعية، وزراعية، ولكنها أُغلقت رغم أن التأسيس السليم يفترض أن يكون لدينا مُتخصصون ذوي جودة في هذه المجالات، فكيف نلوم القطاع الخاص الذي يشتكي من عدم توفر الكوادر الشابة على الخبرة، وهذه الخبرة لا تأتي إلا عبر التأسيس والتأسيس بدورهِ مفقود!

وفي مشروع الزواجِ، فإنه لا يُحتفلُ في مجتمعاتنا بالتأسيس؛ إذ يُقدم الزوجان الشابان دون درايةٍ بالزواجِ كمشروعٍ يشكلُ نواةً للمجتمع، وبذرةً لمستقبل الوطن..! النظرة للزواجِ قاصرة، وضيقة الحدود..! وفي عدة مناسبات طالبتُ بعمل دورات ما قبل الزواج، ليتعرف المقدمون عليه كمشروعٍ متكاملٍ في جميع أبعاده النفسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية والتربوية والفكرية!

أمَّا في جانب الرياضة، فإننا نفتقدُ إلى التأسيس أيضاً، ثم نسألُ عن تدني المستويات الفنية للاعبين والمنتخبات..!! في العام 1988 طلب الخبير الألمانيهيدرجوت(Karl-Heinz Heddergott) الذي عيَّنه الاتحاد العماني مدرباً للناشئين أن يمنح الفرصة للتأسيس السليم لأنه كخبيرٍ في هذا المجال كان يمتلك من الخبرات والتأهيل الأكاديمي الذي يمكنه من تأسيس النشأ بطرقٍ سليمة تهدفُ إلى صقل مواهبهم، وطاقتهم وتنمية مهاراته، وتطوير إمكانياتهم باستخدام علم النفس والسلوك وغيرها من العلوم التأسيسية.. لكنه لم يمنح الفرصة..! ها هم اليوم ناشئون أو شباب يلعبون مواسم سنية معينة ثم يتسكعون بعدها في الأحياء والشوارع لا يدرون أين يتوجهون لأنه لا توجد دوريات تناسب أعمارهم!! ناهيك عن عدم وجود الأكاديميات الرياضية أو المدارس المتخصصة لتؤسس جيلاً رياضياً في مجالات مختلفة بمنهجية سليمة، ذات أُسس صلبة!

في منتصف التسعينيات من القرنِ الماضي، سألتُ مسؤولاً كبيراً عن قطاع الرياضة: أين هو التأسيس في معسكرات أنفقتم عليها ما يقارب النصف مليون ريال عماني لا تبقي أثراً بعد أن تطوي خيامها من الأرض؟! فلم يجد جواباً سوى أن نتائجها كانت مفيدة!

وفي جانب الشورى، فإنَّ التأسيس المجتمعي لفكرة الشورى يفتقدُ إلى المعايير الأساسية لهذا وجد الكثيرون من أية خلفيات ثقافية، أو مستويات علمية، فرصة للترشح.. لكن الشورى بصفتها ميداناً للتشريع تحتاجُ إلى عقلياتٍ رشيدة تتوفرُ فيها الكفاءة والقدرة على تقديم الأفكار والتصورات وفق رؤىً علميةٍ متبصرةٍ بالمستقبل؛ فرصَهُ وتحدياته. ومن هنا، فإنَّ التأسيس السليم للعملية الشوروية في المجتمع لا يمكنُ الاستغناء عنه وذلك عبر وضع معايير رفيعة للمترشحين تتوسم الكفاءة العلمية، والحنكة العقلية، والاستعداد النفسي، والسمات الشخصية، والقبول الاجتماعي؛ إذ لا يمكنُ رفع سقف الصلاحيات في ظل فقدان الأسس الرفيعة التي تشكل القاعدة الصلبة للإقدام على الترشح!

وإذا نظرنا إلى الإدارة، فإننا كذلك نفتقدُ التأسيس الذي يعد اللبنة الأساسية لأي موظفٍ إداري كي ينطلق على قاعدةٍ سليمة البناء، واضحة الأهداف، هذا الأمر مفتقد منذ الإعدادِ التمهيدي للوظائف، حيث لا يفصل الموظف عن الوظيفة إلا امتحانٌ تحريري أشبه بامتحان المدارس..!! ثم حين يستلم الوظيفة يفتقدُ إلى التأسيس كذلك إذ يُترك هو وحظه لاكتساب الخبرة العملية، وتستمر الحال على هذا المنوال في الترقي لوظيفةٍ أعم، أو التعيين في منصبٍ أعلى!

أما ابتعاث الموظفين للدراسة، فيحتاجُ إلى وقفة ملية؛ فهي من جانبٍ أمرٌ حسن، لكنه من جانبٍ آخر أمرٌ لا يفي بالغرضِ الوظيفي؛ إذ الدراسة نظرية في أغلبها إن لم تكن كلها..! لهذا فإنه يفتقدُ إلى الجوانب العملية التي تكسبه الخبرات الملائمة لتطوير العمل، كما أن المؤسسات تحتاجُ كذلك إلى مراجعة أهداف التدريب الذي يبدو مضيعة للوقتِ والجهدِ والمال إن لم يكن حلا لمشكلات وظيفية، أو كسباً لمهارات مهنية، أو تطويراً لتقنياتٍ عملية!

الإشكاليات الإدارية لدينا هي بسبب عدم التأسيس السليم لا لمنهجية العمل، ولا للقائم على مسؤولية العمل. ومن هنا، نشأت مشكلات عويصة صعب حلها فيما بعد..! يقول د.غازي القصيبي -رحمه الله- في كتابه "حياتي في الإدارة": "لكي تخطط لعمل جهاز ما، يجب أن تكون الصورة الإدارية للجهاز متضحة في أذهان المخططين. بعض الإداريين يخطؤون خطأً بيناً عندما يبدأون التخطيط بجهاز لم يستكمل مقوماته التنظيمية".

وانظر إلى التأسيس المفتقد في جوانب دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، فكيف يمكنُ أن ترفد المشاريع الناشئة، وتدعم المبادرات الفردية ومؤسسوها يفتقدون إلى التأسيس الحقيقي الذي يوفر على الدولة المال ويقلص على المؤسسين الجهد والوقت..؟! إن أية مشاريع لا يكتب لها النجاح تعودُ في اعتقادي -أغلبها- لسبب فقدان التأسيس الممنهج للأفراد المؤسسين قبل المشاريع!

وإذا نظرنا إلى الجانب الديني فكراً وسلوكاً نجدُ أن إشكالية فقدان التأسيس قائمة في بعض جوانبه الحيوية ذات التأثير العميق في ثقافة المجتمع! أما الجهود التي تقتصرُ على إصلاحِ القائم، وتقويم المعوج؛ فلن يكون لها من الأثرِ الفعال ما لم تعمد إلى تأسيس بناءٍ سليم يعهدُ أمرهُ إلى أصحابِ عقولٍ رشيدة، وقلوبٍ فطنة، فيبنى الأساسُ للفكرِ الديني الوسطي المنتج للخطاب الديني المتسامح البعيدِ عن المذهبيات والطائفيات والعنصريات والقائمِ على منهجية معتدلة في الفكر والسلوك.

... إنَّ اشكالية فقدان التأسيس المنهجي القائم على وضوح الأهداف والغايات، والخطوات العملية وفق خطة إستراتيجية بعيدة المدى تعم الكثيرَ من الجوانب في حياتنا ابتداءً من التأسيس السليم للأسرة ككيان مجتمعي، إلى تأسيس ثقافة الطفل، إلى تأسيس الثقافة القيمة للمجتمع، كما أنها تشملُ جوانب كثيرة من القطاعات التنمية والتي تشكل ركائز أساسية لبناء الدولة وحياتها وتطورها.

وفي سؤال مطروحٍ بأحد المواقع: أيهما أسهل: التأسيس أم الإصلاح؟ جاءت معظم الإجابات أن التأسيس أسهل -رغم صعوبة البدايات- لكننا المشكلة التي أوقعنا فيها أنفسنا أننا أدرنا ظهورنا للتأسيس وأشغلنا أنفسنا بالإصلاح فكانت النتائج متواضعة لا تكاد تبين، وما زلنا نسأل ما هي المشكلة؟! هي في التأسيس ليس غيره كما تأسس الدين على وحيٍ منزل وعلى كلمة اقرأ!

تعليق عبر الفيس بوك