لمن الرِّضا اليوم؟

عائشة البلوشيَّة

كُنا صغارًا، ننتظر لحظة الحكاية بكل اللهفة التي تغلِّف الوجود؛ فهي التي كانت تنقلنا إلى عالم الأساطير، وفي ليالي السمر في رمضان، كانت الألغاز هي أحد أنواع التسالي، ورغم طفولتنا البريئة إلا أننا كنا نتصنَّع التفكير بعُمق عندما نسمع اللغز، حتى نُعطي لسائلنا فرصة من استعراض عضلات فكره، وأنه أتى بلغز صعب، ومن هذه الألغاز "عن نسر فوق جسر، لا رخمة ولا غراب"!، وأذكر جيدا أنني كنتُ اتندَّر مع بنات العم وأقول: هل سينقلب حمارا؟ فطالما هو ليس برخمة ولا غراب فسيظل نسرًا، ولكننا كنا نكتم الضحك، ونتعمَّد تأخير الإجابة حتى ﻻ نتعرَّض للعقوبة؛ ﻷننا سنكون قد حصلنا على الإجابة من شخص ما، حتى وإن غلظنا الأيمان، لن ننجو من الضرب.

تحكي الأسطورة العمانية القديمة وتقول: يا سادة يا كرام، في قديم الزمان، في بلاد جميلة يقال لها عمان، كان للملك "عين الزمان" ابنة تفوق بجمالها كل الحسان، وقد تسابقت جميع المخلوقات لخطبتها والفوز بذات الجمال الفتَّان، ولكنَّ أباها الملك كان عجيبا في شروطه وطلباته، ومن ضمن ما يحكى أن "الرخمة" و"الصنصروة" كانا من ضمن طالبي الرضا للفوز بابنة عين الزمان، والرخمة هو نوع من أنواع النسور، يقع على جثث الحيوانات النافقة والجيف، أما الصنصروة فهو نوع من أنواع الطيور الصغيرة ذات التغريد الرقيق العذب، فطلب الملك من كل منهما طلبا، حيث طلب من الرخمة أن يأتي له بـ"رطبة" واحدة، ومن الصنصروة بقطرة ماء عذب؛ فحلق الطائران يسابقان الريح، فما كان من الرخمة إلا أن وقع على نخلة "خصاب" فجذ عذقا كاملا وطار به، أما الصنصروة فعبت من ماء البحر عبا حتى أتت عليه، وهما بذلك يقصدان إرضاء الملك، فما كان من الملك عين الزمان إلا أن زمجر غاضبا وأمر بمحاكمتهما أمام الجميع؛ فحكم على الرخمة أنْ لا يحط على شجرة مخضرة طوال حياته، أيعيش بعيدا ويوصف به الشخص الرعديد الجبان. أما الصنصروة، فحكم عليه بأنْ لا يشرب نهائيا إلا من قاطور الجحلة (الماء الراشح من ذلك الوعاء الفخاري)، وذلك ﻷنهما لم يلتزما بما طلب منهما، وحتى يكونا عبرة للجميع بألا يسعون للخراب من أجل إرضاء الآخر، بل بجب على الجميع الحفاظ على المقدرات التي رزقنا إياها الواحد المنان، وحتى حتى ينتفع بها المجتمع بأسره على مر الأزمان.

... إنَّ الأمم تمرُّ بأزمات اقتصادية منذ قديم الأزل، وتبقى حصافة الرجال وتوفيق الله تعالى قبل كل شيء هي المنقذ من المجاعات وعظيم المصائب، ولو عدنا إلى رؤيا فرعون مصر للبقرات العجاف والبقرات السمان، والسنبلات الخضر والأخر اليابسات، وتعبير تلك الرؤيا من قبل سيدنا يوسف عليه السلام، ومن ثم قيامه ببناء خطة إستراتيجية لاستغلال سنوات الخير والادخار وبناء صوامع الغلال، للخروج من سِنِي الأزمة بأفضل الأحوال، ﻷدركنا مغزى الأسطورة العمانية؛ ﻷنَّ الملك عين الزمان كان يريد للجميع أن يعي الدرس من فعلة الرخمة والصنصروة، وأن رضا الله تعالى هو الأهم، ﻷن القضاء على الثروات يحرم الأجيال التي تأتي فيما بعد، والإسراف هو مغبة الأمم ودمارها؛ وللعلم فإن طائر الرخمة لا يمكن أن تراه واقفا إلا على يابس الشجر، والصنصروة حنى يومنا هذا لا تشرب إلا من القطرات المتساقطة، وﻷنه لا توجد جحال كما كانت في الماضي، فإننا نراها إما عند برادات مياه السبيل، أو عند صنابير مياه الحدائق أو تلتقط حبات الندى المتساقطة من ورق الشجر، وبهذا لا أجزم بصدق الأسطورة، ولكنني أرفع القبعة احتراما لعقول سبقتنا، وساقت الحكمة من وحي الطبيعة، لتجعلها درسا وتعيها عقول واعية.

وها نحن اليوم نعيش فترة حرجة جدًّا في تاريخ التحديات الاقتصادية، وقد وصل سعر برميل النفط إلى ما دون الخمسين دولارا، وجاء أوان ترشيد الانفاق، والاستهلاك بقدر الحاجة، وعدم الإسراف، وأن يصبح هذا السلوك ديدن لنا في منازلنا ومقار أعمالنا ومدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا وشوارعنا، فإطفاؤنا لمصابيح الكهرباء في غرفة خالية، ينم عن الإحساس بالمسؤولية، وإصلاحنا لصنبور ماء يسرب نقاط الماء دليل على حرصنا على ثروة غالية...وغيرها من السلوكيات البسيطة في فعلها ولكنها عظيمة في مردودها المعنوي والمادي، للفرد ومحيطه، ولنضع على عواتقنا أن كل ما نحن فيه أمانات نسلمها لمن يأتي بعدنا، وأن نعيش برضا وتسامح مع ذواتنا ومحيطنا، ولنجعله أسلوب حياة نعيش به وفيه، ونتأكد أن الحياة عِبَر ودروس، نستلهم منها ما ينفع حاضرنا، ويبقي مستقبلنا أخضر ذا براعم تبشر بثمر جني.

-----------------

توقيع: "السعادة ليست غاية تريد الوصول إليها، بل هي أسلوب حياة".

تعليق عبر الفيس بوك