القرآن الكريم والترجمة

 


مريم العدويَّة

منذُ بواكير القرنيْن التاسع عشر والعشرين والقرآن الكريم يَحْظى بالكثير من الاهتمام من قِبَل الكُتاب الألمان؛ حيثُ ذكر شتيفان فيلد -وهو رئيس سابق للمعهد الشرقي في جامعة بون بألمانيا- في مقاله حَوْل ترجمة القرآن الكريم، أنَّ العديدَ من العلماء غير المسلمين ألَّفوا كُتباً ووضعوا أبحاثاً حول القرآن؛ ومنهم: تيودور نولديكه الذي وضع كتاباً حول "تاريخ القرآن"، وفي المقابل فإنَّ العلماء المسلمين تحفَّظوا على الكثير من هذه المؤلفات؛ نظراً لما فيها من أفكار عقدية يختلف فيها المسلم عن غير المسلم، ولكن تغيَّرت الحال في السنوات الأخيرة؛ فلقد أرفدت الجامعات الألمانية الساحة الفكرية بخريجي تخصص العلوم القرآنية من الألمان المسلمين، والذين ساهمُوا بدورهم في إثراء ساحة الدراسة القرآنية، بل وحازوا انتباه المثقفين والصحف والإذاعات الألمانية؛ ومنهم: لمياء قنديل صاحبة دراسة عن "القَسَمِ في القرآن".

 

1- عوائق ترجمة معاني القرآن الكريم للألمانية:

نجدُ اليوم في ألمانيا وحدها ما يزيد على اثنتي عشرة ترجمة للقران بالألمانية، يتداولها المسلمون -البالغ عددهم في ألمانيا وحدها ما يربو على الثلاثة ملايين مسلم- جنباً إلى جنب مع الترجمة التركية؛ وذلك لأن المسلمين الألمان ينحدرون من أصول تركية، وغالباً ما تكون التركية أو الكردية هي لغتهم الأم؛ إضافة إلى العدد المتنامي من المسلمين الأتراك الذين حظوا بالجنسية الألمانية، وأصبحت الألمانية هي لغتهم الأم. وفي جميع الأحوال، قليلٌ منهم من يُجيد تلاوة القرآن وفهمه بالعربية. ومن منطلق الإيمان بأنَّ مضمونَ الشعر هو ما يتم ترجمته، بينما روح الشعر تبقى في كلمات اللغة الأم؛ فإنَّ ترجمة القرآن ترمي إلى ترجمة معاني القرآن؛ حيثُ لا يمكن ترجمة آية إلى أي لغة أخرى؛ لذا نجد أنَّ كُتب الترجمة تشبه إلى حد كبير كتب التفاسير التي لا غنى عنها، وكثير منها ما ترافقها الآيات القرآنية، كما نجد أن بعض المترجمين يشدد على ذلك بوضوح من خلال تسميتها بـ"المعاني التقريبية للقرآن"؛ لهذا نجد تعدداً في كتب ترجمة القرآن في اللغة الواحدة.

ولقد أكَّد مُحمَّد أسد -النمساوي الأصل الذي آمن بالإسلام- في كتابه "هل يُمكن ترجمة القرآن؟" استحالة ترجمة القرآن من قبل المسلم، الذي سَبَر القرآن أغواره، وجعله يستشعر ما لهذا الكتاب من قدسية وعظمة. وأما عن الخصائص الأسلوبية المميزة للقرآن -مثل: الحذف والإيجاز في التعبير، وهما مصطلحان بلاغيان متقاربان ومتغايران في الآن نفسه- فلقد أشار مُحمَّد أسد فيما يخص الحذف إلى أن عمل المترجم يقتضي أن يُوصل للقارئ الفقرة الفكرية المتروكة بقصد في النص القرآني، ويضع ترجمته بين قوسين؛ وإلا فإنَّ الجملة المعنية ستفقد حيويتها والمغزى منها، وعليه كذلك أن يلفت انتباه القارئ إلى الإضافات التي وضعها حتى لا يلتبس الأمر على القارئ ويدرك بأنها لم ترد.

ولا ريب أنَّ الكتابة الموضوعية في الترجمة مُهمَّة جدًّا؛ فعلى المترجم أن ينتبه فلا يتعدَّى برأيه الشخصي على مصداقية الترجمة وجودتها. وهو الأمر الذي يبدو جليًّا عند مقارنة ترجمات القرآن المختلفة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يُمكننا أن نتبيَّن ذلك من خلال مقارنة الترجمة التي قام بها أبو الرضا محمد بن أحمد بن رسول والترجمة الألمانية التي صدرت عن مؤسسة الملك فهد مؤخراً؛ فكل ترجمة ذهبت إلى ما رآه المترجم أنسب وأفضل من الإضافات.

ومن جهة أخرى، ثمَّة طريق صعب يحتار فيه المترجم؛ حيثُ بعض المعاني التي يصعب ترجمتها، تجعل المترجم بين خيارين في كلاهما مآخذ، فهو بين أن يترجم بلغة صعبة تستوجب أن يسبر اللغة المترجم لها سبراً ويأتي بالغريب من الألفاظ في محاولة إيصال المعنى، وبين أن يترك النص مُبهما ولا يتعمَّق في معانيه؛ فالترجمة لا تنتهي بنقل اللفظ من لغة إلى أخرى حرفيًّا، بل تذهب إلى أكثر من ذلك؛ ففي الترجمة نقل معنى وثقافة وحضارة تستلزم معرفة الخلفية الثقافية والتاريخية للنص والكثير من التفاصيل؛ حتى يتمكَّن المترجم من نقل النص بأقصى درجات الإجادة.

وكلما كان النص مُهمًّا زادتْ أهمية الإجادة، ولا ريب أنَّ للقرآن أهمية بالغة ومنه تصبح عملية الترجمة صعبة ووجب الحذر فيها.

ولقد أوضح "الصفدي" في كتابه "الغيث المسجم" وجود إمكانيتين للترجمة؛ هما:

أولاً: الترجمة الحرفية، وتتمثَّل بنقل كل لفظ عربي إلى ما يوافقه في اليونانية هكذا إلى نهاية النص، ولهذا النوع عيوب عديدة؛ منها: عدم وجود مرادفات لكافة الألفاظ؛ مما يستدعي اللجوء إلى المجازات التي تجعل من احتمالية الخطأ في الترجمة أكثر، ناهيك عن عقبة ما لكل لغة من خصوصية في قواعدها.

ثانياً: على المترجم قراءة النص واستيعابه وفهمه، ومن ثمَّ نقل المعنى بالألفاظ التي يراها مناسبة، وهذا النوع هو الأفضل؛ لأنه أقرب للدقة. ولأنَّ الإمكانية الثانية هي التي أتفِق عليها في الترجمة من العربية إلى اليونانية؛ فلقد رأى المشايخ -ومنهم: جاد الحق علي جاد الحق في "المنتخب"- أنها هي الأمثل لاتخاذها عند ترجمة القرآن؛ فالترجمة الحرفية غير ممكنة.

ولم تنتهِ مشكلات ترجمة القرآن الكريم من العربية إلى الألمانية عند هذا الحدِّ، بل برزتْ مشكلات أخرى؛ منها: ما يختص بمستوى اللغة المترجم إليها؛ فيرى بعض المترجمين -أمثال: فريدريش روكيت- استعمال لغة أدبية عالية، بينما يذهب البعض -مثل: رودي باريت- إلى استعمال لغة بسيطة قريبة من عامة القراء.

ولأنَّ كلَّ مُترجم يذهب إلى ما يجده مناسبا، بات من الصعب على القرَّاء الألمان تحديد الترجمة الأقرب والأفضل. وهنا؛ يأتي دور المؤسسات المعنية وذات المكانة حتى تشير إلى الترجمة الأنسب؛ مثل: الترجمة التي أوصى بها المؤتمر الإسلامي في كراتشي، ومع هذا فقد تتكرَّر المفارقات؛ عندما يتم اختيار أكثر من ترجمة في فترة زمنية قصيرة، وتكون بين الترجمتين اختلافات عديدة! وهكذا لم يفتأ المسلمون في كل بقاع الأرض في بحث دؤوب عن ترجمة أفضل للقرآن الكريم، وفقاً لما يتطلبه كل عصر من تجديد وحداثة.

 

2- المنهج الأدبي لتفسير القرآن الكريم:

ينطلقُ هذا المنهج إيماناً من أصحابه بأنَّ القرآن الكريم مثلما هو نصٌّ دينيٌّ؛ فهو كذلك نصٌّ أدبيٌّ مُهم جدًّا؛ حيثُ سار من قبل الزمخشري على هذا المنهج، ومن ثم تبعهُ كثيرون في العصر الحديث؛ ومنهم: أمين الخولي.

وتكمُن خصوصية هذا المنهج في أنَّه يعتمد على أربعة عناصر؛ هي: المرسل والمستقبل والأسلوب والمرسل إليه؛ أي ينبغي معرفة أسباب النزول وقصة الحادثة، وهو ما يستوجب الإلمام بخصوصية اللغة العربية من جانب، وبالمجتمع الجاهلي -المجتمع الذي تلقى فيه الصحابة القرآن- من جانب آخر، أضف إلى ذلك ما لذلك العصر من خلفية ثقافية. ومن هنا، نستطيع القول بأنَّ الترجمة ليست حكرا على المسلمين؛ فكذلك العلماء غير المسلمين بإمكانهم -من خلال النصوص الشعرية والنقوش والآثار ودراسة التاريخ- امتلاك خلفية عن جوهر المجتمع الجاهلي، ومنه ينطلقون إلى ترجمة القرآن الكريم. ويُعدُّ المستشرق الألماني مانفريد أولمان نموذجًا لذلك؛ حيثُ وضع قاموس اللغة العربية القديمة.

ورغم كل الصعوبات التي لطالما واجهتها الترجمة، تبقى الترجمة ضرورة ملحة لالتقاء الأفكار وإيصالها للآخر.

تعليق عبر الفيس بوك